الثلاثاء، 26 فبراير 2013

نقل للتأمل



إنه لابد من ارتياد الطريق الطويل.. المجهد الشاق.. البطيء الثمرة.. المستنفد للطاقة، طريق التربية، لإنشاء "القاعدة المسلمة" الواعية المجاهدة، التي تسند الحكم الإسلامي حين يقوم، وتظل تسنده لكي يستمر في الوجود بعد أن يقوم. وقد رأينا في دراستنا التي ناقشنا فيها الوسائل الثلاثة التي يستخدمها المتعجلون – كل من زاويته – أنها كلها تؤدى إلى طريق مسدود، وإن بدا في ظاهر الأمر أنها هي "الحركة" التي تخرج "بالعمل" من حالة الجمود!
فالصدام مع السلطة قبل وجود القاعدة المسلمة الواعية المجاهدة عمليات انتحارية لا طائل وراءها، إلا إعطاء الطغاة حجة لتقتيل المسلمين وتذبيحهم، والناس غافلون عن حقيقة المعركة، وعن كون هؤلاء الطغاة إنما يعملون ما يعملون عداءً للإسلام ذاته – لا رداً على عمل بعينه – وولاءً للصليبية الصهيونية التي تحارب الإسلام في كل الأرض.
والتسلل إلى داخل الأجهزة السياسية مع عدم وجود القاعدة المسلمة الواعية المجاهدة عملية عبثية لا طائل وراءها، إلا تمييع القضية في نظر الجماهير، وتأخير النضج اللازم لإقامة القاعدة التي لا يقوم بغيرها الحكم الإسلامي.
والبحث عن الحلول العملية للمشاكل المعاصرة قبل وجود القاعدة المشار إليها آنفاً صرف للجهد بلا طائل، وتحويل للطاقة العاملة في الساحة من ميدانها الأول الأصيل إلى ميدان جانبى، يستنفد الطاقة وهو لا يؤدى   – الآن – إلى شئ، ويوهم صاحبه في الوقت ذاته أنه "يعمل" بل أنه يعمل العمل الواجب، فلا يحس بالتقصير الذي يمارسه في الميدان الأول الأصيل، إن لم ينظر إلى العاملين فيه على أنهم هم العابثون المضيعون!!
وحين نقول إنه لابد من التربية أولاً لإنشاء القاعدة المسلمة الواعية المجاهدة، يثور كثير من التساؤلات والتصورات:
ربينا بما فيه الكفاية!
إلى متى نظل نربى دون أن "نعمل"!
ما جدوى التربية وكلما ربينا جيلاً من الشباب قضى عليه الأعداء!
ما المقصود بالتربية؟!
ونريد الآن أن نلقى بعض الضوء على المقصود بالتربية. ولكن لابد من تصحيح بعض هذه التصورات أولاً تمهيداً لبيان الصورة الصحيحة المطلوبة، المثمرة بإذن الله.
إن الذين يقولون: ربينا بما فيه الكفاية، يغفلون عن حقائق كثيرة واقعة في الساحة.
ربما كان أفضل لون من التربية قام في الساحة حتى اليوم هو الذي قام به الإمام الشهيد بين "الإخوان العاملين" الذين رباهم على عينه. وأفضل جوانب هذه التربية هو الأخوة المتينة التي رباها في أتباعه، والروح الفدائية الصادقة التي طبعهم بها، والجندية الملتزمة التي زرعها في نفوسهم، ثم تحرير لا إله إلا الله في حسهم من تواكل الصوفية وتواكل الفكر الإرجائى، وتحويلها في سلوكهم إلى حركة واقعية وعمل.
ولكنا رأينا كم من الجوانب كان ينقص هذه التربية ذات الطابع الأصيل العميق، وكم أثر هذا النقص في خطوات العمل الإسلامي بعد مقتل الإمام الشهيد بصفة خاصة.
ولا ندرى كم من هذه الجوانب كان الإمام الشهيد قمينا بإضافته أو تصحيحه لو امتد به العمر. ولكنا نجد على الساحة الواقعية أن الجنود قد ربوا ليكونوا جنوداً فحسب، لا ليكونوا قادة بعد ذهاب قائدهم، كما ربى رسول الله  r أصحابه ليكونوا جنوداً فائقين تحت قيادته  r ، وليكونوا في الوقت ذاته "صفاً ثانياً" بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، كما كان الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم في قيادة الأمة، وكما كان بقية الصحابة رضوان الله عليهم في كل ميدان انتدبوا إليه.
نجد غياب "الصف الثاني" على المستوى المطلوب للجماعة التي تتزعم العمل الإسلامي في ظروفه الراهنة واضحاً ملموساً كلما امتد الزمن بعد مقتل الإمام الشهيد، فندرك – على الصعيد الواقعي – أنه كان هناك نقص في التربية، في هذا الجانب، ينبغي أن يستدرك ونحن نُعدّ لمسيرة طويلة قد تستغرق بضعة أجيال من عمر الدعوة قبل أن يكتب لها التمكين في الأرض.
ومن قبل لاحظنا العجلة في الإعداد والعجلة في التحرك والعجلة في السماح للجماهير بالانتماء للحركة قبل تربية العدد المناسب من الدعاة، الذين هم جنود تحت قيادة القائد، وقادة في ذات الوقت ومربون. وكيف كان لهذا كله آثاره في خط السير. والمفروض – ونحن نعد للمسيرة الطويلة – أن نتلاقى كل هذه الجوانب من النقص التي اشتملت عليها الجولة الأولى، أي أن نغير أسلوب التربية بما يتناسب مع أهداف الحركة، وطول المسيرة، ومشقة الطرق، وكيد الأعداء.
فإذا نظرنا إلى الساحة الآن فقد نجد نوعيات أفضل في بعض الجوانب. ولكنا نجد نقصاً كبيراً في التربية في جوانب أخرى. نجد شباباً أكثر وعياً بمفهوم لا إله إلا الله، وصلتها الوثيقة بتحكيم شريعة الله. أي أكثر إدراكاً لقضية "الحاكمية" التي كانت قد أجملت إجمالاً من قبل جعلها تخفي على كثير من الدعاة أنفسهم. ونجد شباباً أكثر إدراكاً لطبيعة المعركة وما يلقى فيها من الأسلحة الظاهرة والخفية، ودور الأجهزة المختلفة في محاربة الدعوة عن طريق مناهج التعليم ووسائل الإعلام، وإثارة قضايا سياسية واجتماعية وفكرية معينة، تتجه بالناس وجهة بعيدة عن الإسلام، وتبعدهم باستمرار عن التلقي من المصدر الرباني. ولكن هؤلاء الشباب – في كثير من الأحيان – ينقصهم التجمع الصحيح، فيتجمعون في جماعات صغيرة مبعثرة، يكيد بعضها لبعض، أو يتربص بعضها ببعض، أو يتجادل بعضها مع بعض بروح الخصام لا بروح المودة. ويمكن أن تنقسم الجماعة الصغيرة إلى جماعات أصغر عند أول اختلاف على تفسير نص من النصوص، أو تقويم قضية من القضايا. مما يقطع بأن التربية الجماعية عندهم ناقصة. وأن الروح الفردية فيهم أقوى. بينما التربية المطلوبة – لتنشئة المسلمين عموماً فضلاً عن الجيل الذي يقع عليه عبء المواجهة الأولى مع الجاهلية – ينبغي أن توازن بين الروح الفردية والروح الجماعية عند أفراد الجماعة، فلا تحيلهم أصفاراً عن طريق تنمية الروح الجماعية على حساب الروح الفردية، ولا تنمى فيهم الفردية الجانحة فيعتز كل منهم بفكره وبذاته وبتقييمه الخاص للأمور، فلا تأتلف منهم جماعة، ولا يلتئم لهم تجمع له وزن .
كما أن هذا الشباب – في معظم الأحيان – تنقصه الخبرة الحركية (وهي جزء من التربية المطلوبة)، مع أنه أكثر وعياً من الجيل السابق في كثير من القضايا ذات الطابع الفكري. ومن أجل هذا يتعجل في الصدام مع السلطة، وفي استعراض قوته في قضايا لا تقدم ولا تؤخر، أو في قضايا ذات وزن وذات خطر ولكن لا يستطيع المسلمون في حالتهم الراهنة أن يغيروا شيئاً من مجراها.
...
...
...

هل يمكن حقاً أن تقوم شريعة الله في الأرض قبل أن توجد القاعدة المؤمنة الواعية المجاهدة التي تواجه النتائج المترتبة على إعلان الحكم الإسلامي، وأولها تحرش الصليبية الصهيونية على نحو ما حدث في الجزائر وفي تركيا؟
وهل يكفي "الضغط الشعبي" لإقامة الحكم الإسلامي، إن لم يكن "الشعب" الذي يمارس الضغط مستعداً لجهاد، ومستعداً لخوض معركة طويلة الأمد، يصبر فيها على الخوف، والجوع، ونقص الأموال، والأنفس، والثمرات كما بين اله في كتابه المنزل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ (155)} [سورة البقرة 2/153-155]
أليس الأجدى إذن إنفاق الطاقة في إقامة "القاعدة المسلمة" التي تحتمل هذه التبعات الجسام، بدلاً من إنفاقها – أو إنفاق قدر منها – في المطالبة الشفوية التي لا يترتب عليها شئ في الحقيقة، إنما تكون كالطلقة الطائشة، تنبه عدوك إلى مكانك دون أن تصيب شيئاً في الواقع؟!
إن القضية ليست إلهاب حماسة الجماهير لتطبيق الشريعة الإسلامية، فهذا وحده لا يكفي، ولا يغير شيئاً من الواقع، طالما كانت هذه الجماهير لا تملك إلا تلك الحماسة العاطفية، التي يمكن أن تنطفئ بذات السرعة التي تلتهب بها. إنما يتغير الواقع حين "تجند" تلك الجماهير نفسها لقضية تحكيم الشريعة على أساس أن هذا التحكيم هو المقتضى المباشر لقول لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
والفارق الضخم – في مجال الحركة الواقعية – بين الحماسة العاطفية التي لا تنتهي إلى شئ واقعى، وبين تجنيد الناس أنفسهم لهذه القضية، ينشأ من فارق دقيق – وخطير في الوقت ذاته – في تفهم حقيقة القضية وإدراك أبعادها. فحين تكون القضية في حس الناس أن تحكيم الشريعة "كالات" يكتمل بها دينهم، ولكنهم قبل ذلك مسلمون ولو رضوا بشريعة غير شريعة الله، وتحاكموا إليها بغير حرج في ضمائرهم، سيكون أقصى ما يعطونه للقضية هو تلك الحماسة العاطفية التى لا تصمد للبطش الوحشي الذي يقابل به الطغاة الدعوة لتحكيم شريعة الله، وأن إيمانهم لا يكون ناقصاً إنما يكون غير قائم أصلاً إذا تحاكموا – راضين – إلى شرائع يضعها البشر من عند أنفسهم بغير إذن من الله. عندئذ سيجند الناس أنفسهم لتلك القضية، لأنها ستكون في حسهم قضية إيمان وكفر، لا مجرد "كمالات" يكملون بها إيماناً موجوداً بالفعل، مرضياً عند الله!
ولن تقوم شريعة الله في واقع الأرض حتى يجند الناس لها أنفسهم، ويحتملوا التضحيات في سبيل إقامتها، أما الحماسة العاطفية فمهما أعجب الدعاة مظهرها، فلست رصيداً حقيقياً في المعركة الهائلة التي يرصدها للإسلام أعداء الإسلام!

(الأستاذ محمد قطب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق