السبت، 30 نوفمبر 2013


- هل للدولة الإسلامية دستور؟
- وهل يصح شرعاً ونظاماً وصف القرآن والسنة بالدستور؟
- وكيف يصح وصف القرآن الكريم وصحيح السنة بالدستور، مع أنَّ القرآن والسنة أعلى من كل دساتير البشر؟
- بل كيف يصح وصف الكتاب والسنة بالدستور مع أنَّ الدساتير تقبل التغيير والتبديل، والكتاب والسنة محفوظان بحفظ الله، لا يمكن تغييرهما ولا تعديلهما، بل لا يجوز تفسيرهما بخلاف مدلولهما الصحيح وفق أصول الاستنباط ؟
- أليس المقصود عند القول أن الدستور هو القرآن والسنة أي أنهماء مصدر التشريع؟
- أليس الأولى أن يوصف الكتاب والسنة بالمبادئ فوق الدستورية، و النظام العام الذي تُستمد منه الدساتير؟

هذه أسئلة أجاب عنها د. سعد العتيبي في هذا البحث الذي أقتبس منه الفقرات محل الدلالة:

ذكر المحبي في (قصد السبيل فيما في اللغة العربية من الدخيل): تطلق على الأصل والقانون، والوزير الكبير الذي يرجع في أحوال الناس إلى ما يرسمه .
وقال الفيروزآبادي في (القاموس المحيط): الدُّستور، بالضم: النسخة المعمولة للجماعات التي منها تحريرها، مُعَرَّبة، وجمعها دساتير.
وقال الزبيدي في (تاج العروس) : المعمولة للجماعات، كالدفاتر التي منها تحريرها، "ويجمع فيها قوانين الملك وضوابطه" ، وهذا المعنى الأخير يحتاج مزيد بحث، فهو في ظاهره قريب من المعنى الحديث .
وجاء في (المعجم الوسيط) "الدستور" : القاعدة يعمل بمقتضاها، والدفتر تكتب فيه أسماء الجند، ومرتَّباتهم، معربة .
وفي الاصطلاح المعاصر: مجموعة القواعد الأساسية التي تبين شكل الدولة، ونظام الحكم فيها، ومدى سلطتها إزاء الأفراد، جمعها : دساتير، محدثة .
وجاء في (معجم القانون) الصادر عن مجمع اللغة العربية: " دستور: الوثيقة التي تتضمن مجموعة القواعد التي تتعلق بنظام الحكم في الدولة؛ وقد يطلق هذا الاصطلاح على مجموعة القواعد التي تتعلق بنظام الحكم في الدولة، وبالمعنى الأخير: يمكن أن يكون الدستور مكتوباً، كما يمكن أن يكون عرفياً ، مثل ( الدستور الإنجليزي) " .
وتبحث موضوعاته تحت اصطلاح (القانون الدستوري)، وهذا مصطلح حديث النشأة، يُرجَعُ تاريخُه إلى سنة 1834م ، عندما أنشئ -لأوَّل مرَّة- كرسيٌّ لمادة " القانون الدستوري في كلية الحقوق بباريس، في فرنسا، ويحتمل أنها نُقِلت عن الإيطاليين؛ وكانت موضوعاته تُبحث تحت عنوان (القانون العام) أو (القانون السياسي)"؛ وانتشرت هذه التسمية في مصر سنة 1923م، وقد كان الشائع استعمال (القانون النظامي) أو (القانون الأساسي)، وقد شاع استعمالها في دساتير الدول العربية الحديثة، وإن كان يستعمل فيهـا الاصطلاحان معاً .
وقد أُرجع شيوع استعمالها إلى إيجازها، ودلالتها العرفية . ويمكن أن يضاف : إمكانية تضمينها محتوى يتوافق مع ثقافة كل قُطْر، وسلامة اللفظ –عند الإطلاق- من الدلالة على معنى اصطلاحي يعبّر عن ثقافة أو فكر بعينه .
فهو إذاً يعبر عن النظام السياسي من خلال مبادئه وقواعده ؛ ومن هنا كانت الدساتير معياراً مهماً للدراسة الشرعية والقانونية المقارنة بين النظام السياسي الإسلامي ، والنظام السياسي الوضعي .
والأصح لغة أن يقال : "النظام الأساسي"؛ وهو الذي أقرَّه مجمع اللغة العربية؛ والذي اعتمد في تسمية نظام المملكة العربية السعودية؛ حيث سُمِّي "النظام الأساسي للحكم".
بالنظر في تطبيقات الدسترة الإسلامية، أي فيما كتبه عدد من علماء الشريعة وأساتذة القانون والباحثين في الدستور الإسلامي، إضافة إلى مشاريع الدساتير الإسلامية، ، التجارِب الدستورية الإسلامية –لا الدساتير التقليدية في عالمنا العربي والإسلامي- التي أسهم في صياغتها فقهاء الشريعة وأساتذة الدستور الإسلامي، نجد ثلاث اتجاهات رئيسة :

الاتجاه الأول : صاغ مشاريع دساتير إسلامية، وضمّنها أيضاً مادة دستورية أو أكثر تؤكد لزوم خضوع جميع السلطات لأحكام الشريعة الإسلامية، وما تفرع عنها من مبادئ وقواعد..وهذا الاتجاه منه ما اتخذ مسارا مؤسسيا جماعيا، ومنه ما كان عملاً فرديا..

ومن أمثلة هذا الاتجاه من المشاريع الإسلامية الجماعية : المبادئ الأساسية للدولة الإسلامية ، التي أقرها مؤتمر العلماء في باكستان 1370هـ (صيغت في اثنين وعشرين مادة دستورية) ؛ وكان في إقرار علماء باكستان لها في مؤتمرهم ردّ عملي على دعاوى العلمانيين الباكستانيين حينها بأن العلماء لا يمكن أن يتفقوا على صياغة دستور إسلامي، لتعدد مذاهبهم!!

ومنها : مشروع الدستور الإسلامي لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، الذي أقر العمل على إعداده المجمع في مؤتمره الثامن بالقاهرة في ذي القعدة عام 1397هـ، إذ قرّر مجلس مجمع البحوث الإسلامية في 11/1/1398هـ، إسناد سنّ وصياغة هذا المشروع إلى لجنة الأبحاث الدستورية الإسلامية بالمجمع على أن تُدعى في هذا الاجتماع الشخصيات التي يمكن أن تُسهم في صياغة هذا الدستور؛ ليكون دستورا لأي دولة إسلامية تعزم على التزام الشريعة الإسلامية؛ وقد صاغته لجنة عليا كونها شيخ الأزهر ورئيس المجمع الدكتور/عبد الحليم محمود، وضمت أعضاء لجنة الأبحاث الدستورية بالمجمع ، ونخبة من كبار الشخصيات المشتغلين بالفقه الإسلامي والقانون الدستوري لتتولى هذه المهمة ؛ وقد تم الانتهاء من صياغته في 16/7/1398هـ؛ فجاء في تسعة أبواب، اشتملت على مائة واثنتين وأربعين مادة . ثم خضعت بعض نصوص هذه الصياغة فيما بعد لتنقيحات من بعض أساتذة القانون الدستوري من الشرعيين، وأدخلت التنقيحات في بعض المشاريع التي صيغت بعد ذلك . وممن استدرك على هذا المشروع، الدكتور مصطفى كمال وصفي المستشار بمجلس الدولة بمصر، إذ تعقّبه بنقد بعض مواده من جهة الموضوع والشكل، وتصحيحها وفق ما يراه أصوب، وفيها تعقيبات مهمّة لدارس النظم الدستورية الإسلامية..

ومنها : مشروع الدستور الإسلامي الذي أقرّه مؤتمر (المجلس الإسلامي العالمي)، الذ ضم نخبة من الشخصيات الإسلامية، وذلك في 3/4/1404هـ ؛ ويقع في أربعة عشر بابا، تضم سبعاً وثمانين مادة .

ومن أمثلة هذا الاتجاه من المشاريع الإسلامية الفردية : (أنموذج الدستور الإسلامي)، الذي صاغه الدكتور مصطفى كمال وصفي رحمه الله المستشار بمجلس الدولة المصري، وقد أخرجه في كتاب بذات العنوان، ويقع في تسعة أبواب، وبضعا وسبعين مادة، وتضمن أحكاما عامّة وأحكاما انتقالية .

الاتجاه الثاني : رتب دستورا إسلاميا يقوم على مبادئ، تضمنتها النصوص الشرعية (الكتاب والسنة)، ومن أمثلة هذا الاتجاه : (دستور للأمة من الكتاب والسنة) ، للأستاذ الدكتور/عبدالناصر توفيق العطار، وتضمن هذا الدستور سبعين مبدأً من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وعامته من الآيات القرآنية التي نصت على مبادئ دستورية؛ شرح فيها الشيخ كلّ مبدأ، ثم ختم الحديث عن كل مبدأ وشرحه، باقتراح مادة دستورية، وصاغ نموذجها في خاتمة كل شرح ..

والاتجاه الثالث : نظر إلى النصوص الشرعية جميعها بوصفها دستورا للأمة . وفرّع عنها: نظاما أساسياً سياسيا يستمد شرعيته منها، نص على وجوب استمداده وخضوعه لنصوص الكتاب والسنة؛ ويوصف هذا النوع من الدساتير بأنه وثيقة دستورية تابعة للدستور(القرآن والسنة) المنصوص عليه في النظام الأساسي ذاته، فلا تسمى دستوراً؛ وهذا التطبيق صريح في (النظام الأساسي للحكم) في المملكة العربية السعودية، الذي اشترك في صياغته عدد من علماء الشريعة ومن الأمراء ومن الخبراء .

وهذا ظاهر في نصّ المادة الأولى والسابعة من النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية . فنصّ المادة الأولى منه : " المملكة العربية السعودية : دولة عربية إسلامية ، ذات سيادة تامّة ، دينها الإسلام ، ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولغتها هي اللغة العربية ، وعاصمتها مدينة الرياض " .

ونصّ المادة السابعة من النظام الأساسي للحكم : " يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة " . ----
مما مضى يتضح جلياً أنَّ حقيقة الدستور الإسلامي لا يختلف فيها مؤمنان بالإسلام عقيدة وشريعة، ويعلمان معنى ما يؤمنان به على حقيقته؛ ولهذا نجد دعاوى إنكاره إنَّما تصدر من خصوم الإسلام أو ممن يجهلون حقائقه..

كما يتضح جلياً أنَّ علماء العصر، قد بذلوا جهوداً مشكورة في صياغة مشاريع لدساتير إسلامية معاصرة، وأسهموا في صياغة نظم أساسية إسلامية، تجمع بين الثابت الدستوري، والمتغير الدستوري المتفرع عنه، والذي لا ينفصل عن محور الثابت منه..

وقد تعمدت البدء بالجانب العملي، لأنَّه ردّ فعلي على جهالة المنكرين، وجواب عملي على أسئلة المتسائلين..

وأمَّا جانب الفقه الدستوري، فلا يخلو كتاب ولا مدونة من مدونات الفقه الإسلامي العامة، ولا تفسير من تفاسير آيات الأحكام ولا شرح من شروح كتب الحديث- فضلا عن كتب السياسة الشرعية الشاملة - من بحث الموضوعات الدستورية؛ بل أدخل جزء منه في كتب العقيدة الإسلامية عند أئمة أهل السنة والجماعة .. ومع أن الدستور الإسلامي يُصنّف في القرون الماضية في إطار ما يعرف بالدستور المرن، الذي لم يدون في صيغة وثيقة دستورية؛ لرسوخه، و وجوده في ضمير الأمة، وتطبيقاتها الدستورية الصحيحة- إلا أن الحكَم في تطبيق الدستور الإسلامي هو القضاء الشرعي، الذي لم يكن يستثني قضية دستورية من النظر- وإن خرج على ذلك ظلمة الزعماء - فقد كان القضاء هو الضمانة العملية للتطبيق، وهو ما سأفرده بحديث لاحق إن شاء الله تعالى ..

وهذه حقيقة يعرفها من درس الشريعة ودرس القانون الدستوري، وإن جهلها بعض الشرعيين ممن يجهلون المعنى المعاصر لـ(الدستور)، فضلا عن القانونيين الوضعيين الذين لم يدرسوا الشريعة ولم يطلعوا على ما كتب في الموضوع، وهو ما بينه الدكتور/عبدالناصر العطار في المقال السابق..

ولا ينقضي عجبي حين أجد شخصيات غربية غير مسلمة- فضلا عن الشخصيات الغربية المسلمة- تعلم من حقائق الدستور الإسلامي ما ينكره بعض المنتسبين لبعض الكليات الشرعية!

وهنا أستحسن ذكر شخصية يهودية الأصل، غربية المنشأ، درست الإسلام فاعتنقته، ولم تلبث أن ألّفت مؤلفا في الدستور الإسلامي، يتعمق في الفهم، فيفيض إعجاباً بالدستور الإسلامي، فيتجلى إيمانه بمبادئه ومسائله، ليسهم في مؤلف خاص به، هو : (منهاج الإسلام في الحكم) فيضع النقاط على الحروف في جملة من كلياته، ليكشف لمن حرفهم بعضُ ما بلغهم من بني قومه! كيف أنَّ الحق ما هرب منه المنحرفون، لا ما هرولوا إليه!!

لقد جلّى ليبولد فايس رحمه الله قضايا مهمة تتعلق بالنظام السياسي الإسلامي وما يضادّه، بلغة عصرية واعية؛ بل يمكن القول: لقد كان ليبولد فايس رحمه الله (المشهور بمحمد أسد) من أوائل من نبهوا إلى ضرورة النص في تدوين أي دستور إسلامي: على منع أي قانون وإبطال أي نظام يتعارض مع نصوص الكتاب والسنة؛ فقد قال رحمه بعد أن ذكر جملة من الأحكام الدستورية الثابتة:

" على الرغم من أن هذه الأحكام الشرعية التي أشرنا إليها ستضل راسخة في أساس بنيان الدولة الإسلامية مهيمنة على عملها..."، ثم يُبيّن رحمه الله أنَّ طبيعة تلك الأحكام الدستورية، تفتح المجال لنا نحن المسلين، لننظم ونسنّ " ما قد نحتاج إليه من الإجراءات اللازمة لإدارة شؤون الدولة؛ ولهذا لا بدّ لنا من أن نضيف بأنفسنا القوانين الملائمة لزماننا ومقتضيات حياتنا، شريطة أن لا نبيح لأنفسنا سنّ قوانين تتعارض مع نصّ الشريعة أو روحها . وقد حذّرنا الله من ذلك فقال : )وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم[؛ وعلى هذا فإنَّ دستور الدولة يجب أن ينصّ على أنّ أية قوانين إدارية –سواء كانت ملزمة أو آذنة في أي أمر من الأمور- لا تصبح سارية المفعول إذا وجدت متناقضة مع أي نصّ من نصوص الشريعة" .

وقد تعمّدت أن أورد هذا التقرير السياسي الشرعي لهذا المفكر المخضرم، وأنقل عن عالم غربي كان يهودياً فأسلم، ثم لم يجد عناء في فهم الفقه الدستوري الإسلامي ومبادئه، ليكون من منظريه المتشبعين بالإيمان بعدالته وتفوقه؛ تعمدت ذلك مع كثرة الفقهاء الدستوريين الشرعيين، ليتضح الفرق بين من درس الفقه الدستوري الإسلامي من مصادره ثم تحدث عنه، وبين من لم يقرأ شيئا في الفقه الإسلامي، أو قرأ عنه من غير مصادره، أو من طريق خصومه والجهلة به، فكان ريشة في مهب الشبهات الواهية أمام أبجديات الأحكام الدستورية الشرعية..--

أشرت فيما مضى إلى تقسيم صياغة الدستور إلى قسمين :

قسم الأحكام الدستورية المتعينة الثابتة التي لا تقبل التعديل، وإنما يصاغ في الدستور وجوب وتعيّن التزامها.

وقسم الأحكام الدستورية الاجتهادية التي تتغير فيها الفتوى الشرعية بتغير المناط لتغير الأحوال .. وهذا التقسيم محكوم بالمُسَلَّمَة العَقَدية التشريعية المعلومة من دين الإسلام بالضرورة باتفاق أهل الإسلام، ألا و هي: تعيّن السيادة للشريعة الإسلامية .. وفي إطار هذه المسلمة العقدية التشريعية، بحث فقهاء الدستور الإسلامي من المعاصرين صياغة دستور إسلامي تفريعي على النمط العصري للدساتير المدونة، وذلك تحت مسألة: تدوين الدستور الإسلامي؛ كما بحثوا تحت مسألة تدوين الدستور، مسألةَ : تعديل الدستور الإسلامي في المسائل الفرعية الاجتهادية ..

فأمَّا مسألة : تدوين الدستور الإسلامي، فقد مضى الحديث عنها، ومضى ذكر بعض جهود مجامع علماء الشريعة وأساتذة القانون من الشرعيين وأفرادهم، في تدوين دستور إسلامي، وفي تدوين إعلان دستوري إسلامي، والحديث في تفاصيلها يطول؛ وعلى كل حالٍ فلم أقف على رأي لعالم شرعي عارض فيه تدوين دستور إسلامي حقيقي يخضع لأحكام الشريعة الإسلامية، ويتقيد بسيادة الشريعة ويلتزم بمرجعيتها في كل مواده وما يتفرع عنها؛ وغاية ما هنالك أن بعض العلماء وأساتذة القانون من الشرعيين، قد لا يرتضي إدراج مسائل معينة في الدستور، أو يرى إضافة قيود معينة، أو يتحفظ على عبارات معينة، ونحو ذلك؛ وذلك كلّه بناء على مدى تحقق شرط الالتزام بأحكام الشريعة لديه، في صياغة دستور أو مشروع دستور بعينه..

ولذلك لا خلاف بين علماء الشريعة وأساتذة القانون من الشرعيين ممن درسوا تدوين الدستور، في وجوب النص فيه على مرجعية الشريعة وسيادتها على كل السلطات، والالتزام بمقتضاها وعدم مخالفتها في جميع مواد الدستور؛ وقد سبق بيان اتجاهاتهم في التزام ذلك على سبيل الإجمال..

وأمَّا مسألة : تعديل الدستور التفصيلي التطبيقي، فلعل من أوائل من فصّل في ذلك تفصيلا حسنا، الشيخ الأستاذ د. منير البياتي حفظه الله.. فقد قال قبل أكثر من ثلاثة عقود: "لا سبيل إلى تعديل الأحكام الدستورية الثابتة في الكتاب والسنّة دون اجتهاد [أي فيما لا يسوغ فيه الاجتهاد]؛ لأن ذلك كما بيّنا لا يكون إلا بوحي، ولا وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما الأحكام الدستورية الصادرة عن اجتهاد [شرعي] وثبتت في الدستور، فإن بالإمكان أن يتناولها التعديل". ثم بيّن حفظه الله معيار ذلك بقوله: "وبإمكاننا أن نضع معياراً ضابطا لذلك أو قاعدة، فنقول : إنَّ كل حكمٍ دستوريٍّ يقبل الاجتهاد يقبل التعديل؛ وكل حكمٍ دستوري لا يقبل الاجتهاد لا يقبل التعديل"؛ ثمّ وصّف الأحكام التي لا تقبل التعديل، تأسيسا على التقعيد السابق بقوله :

"وتأسيسا على هذه القاعدة تكون الأحكام الدستورية التي لا تقبل التعديل هي :
1) الأحكام الدستورية التي مصدرها القرآن الكريم، إذا كان دليلها قطعياً في دلالته على معناه .
2) الأحكام الدستورية التي مصدرها السنة المتواترة والمشهورة والآحاد الثابت صحتها، إذا كان دليلها قطعياً في الدلالة على المعنى .
3) الأحكام الدستورية التي مصدرها الإجماع" .

ثمّ وصّف الأحكام الدستورية المدونة على الطريقة العصرية، التي تقبل التعديل، بقوله :

"أمَّا الأحكام الدستورية الواردة في الدستور الإسلامي وتقبل التعديل، فهي:

1) الأحكام الدستورية التي مصدرها القرآن الكريم إذا كان دليلها ظنياً في دلالته على معناه، إذ يمكن حملها على المعنى الثاني للنص على أساس الاجتهاد في تفهم المراد من النصّ؛ ويكون هذا الحمل على المعنى الثاني بمثابة تعديل للحكم السابق المبني على المعنى الأول للنصّ؛ على أن يكون هنالك دليل يرجح المصير إلى المعنى الثاني للنصّ والإتيان بحكم [معدِّل] جديد [بالنسبة للدستور المعدَّل] بناء عليه [أي: بناء على المرجح الشرعي؛ لا بالهوى والتشهي] .

2) الأحكام الدستورية التي مصدرها السنة المتواترة والمشهورة والآحاد الصحيحة، إذا كانت ظنية الدلالة على المعنى، إذ يمكن حملها أيضا على المعنى الثاني للنصّ، على أساس الاجتهاد في تفهم المراد من النصّ؛ ويكون هذا الحمل بمثابة تعديل للحكم السابق [في الدستور السابق] المبني على المعنى الأول للنصّ، على أن يكون هنالك دليل يرجح المصير إلى المعنى الثاني والإتيان بحكم [معدِّل] جديد، بناء عليه [أي: بناء على المرجح الشرعي لا بالهوى والتشهي].

3) الأحكام الدستورية التي مصدرها الاجتهاد [فيما لا نصّ فيه]، سواء أكان ذلك يخص التشريع الدستوري الصادر من أولي الأمر عن اجتهاد، أو الأحكام الدستورية الواردة الواردة في مذاهب المجتهدين، وثبتت في الدستور؛ فكون هذه الأحكام تتغير بتغير الأزمان وتدور مع المصالح وجودا وعدما، يجعل بالإمكان أن يتناولها التعديل، وأن يعدل عن رأي اجتهادي في حكم مسألة دستورية إلى رأي اجتهادي آخر يحقق المصلحة أو ينسجم مع عرف أو عادة لا تناقض نصاً " .


منقول" بعد توصيف مفهوم الدستور والقواعد الدستورية بالمعنى القانوني المعاصر، أقول :

عوداً على بدء، كان السؤال الأول: هل للدولة الإسلامية دستور بالمعنى القانوني المعاصر؟

والجواب هنا يتطلب –قبل التفصيل فيه- بياناً لإشكالية مهمة، وهي إشكالية المصطلح في كثير من المفاهيم السياسية والقانونية، بما فيها مفهوم الدستور هنا، ومع تشعب هذا المشكل ووجود مؤلفات عديدة تكشفه وتبين أثره في تحريف المفاهيم وبناء التصورات ولا زال بحاجة للبحوث التطبيقية، إلا أن الذي يهمنا منه هنا جهتان :

الأولى : إشكالية حصر كثير من دارسي القانون للدستور في وثيقة الدستور، التي يمكن وصفها بالشكل النمطي للدستور بالمعنى القانوني في إطار تصنيف الدساتير المكتوبة ليس إلا، مع أنَّه قد لا يشمل كل القواعد الدستورية بل ولا المبادئ الدستورية، كما سبق، وكما أشرت عند استعراض تصنيفات الدساتير العالمية .

والثانية : إشكالية غرابة المصطلحات الإسلامية الدستورية في هذا العصر، بسبب إقصاء الشريعة الإسلامية وغياب النظام الإسلامي في كثير من المجتمعات الإسلامية، وقد نبّه إلى هذه الإشكالية عدد من الباحثين والمفكرين، ومن ذلك قول أبي الأعلى المودودي رحمه الله في كتابه:(تدوين الدستور الإسلامي) : "المشكلة الأولى جاءت من جهة اللغة، وبيان ذلك : أنَّ النّاس عامّة في هذا الزمان، قليلاً ما يتفطنون لما ورد في القرآن وفي كتب الحديث والفقه من المصطلحات عن الأحكام، والمبادئ الدستورية...ففي القرآن الكريم كثير من الكلمات نقرؤها كل يوم! ولكن لا نكاد نعرف أنها من المصطلحات الدستورية، كالسلطان والملك والحكم والأمر والولاية؛ فلا يدرك مغزى هذه الكلمات الدستوري الصحيح إلا قليل من النّاس. ومن ثمّ نرى كثيراً من الرجال المثقفين يقضون عجباً ويسألوننا في حيرة إذا ذكرنا لهم الأحكام الدستورية في القرآن: (أَوَ في القرآن آية تتعلق بالدستور) ؟ والحق أنه لا داعي إلى العجب لحيرة مثل هؤلاء الأفراد، فإنَّ القرآن ما نزلت فيه سورة سميت (بالدستور)، ولا نزلت فيه آية بمصطلحات القرن العشرين " .

هذا فضلاً عن الإشكال في فهم طبيعة النظر الفقهي الشرعي، فهو نظر ذو فلسفة شاملة لمنظوماته؛ فهو لا يفصل بين ما هو سياسي وما ليس كذلك، فهذا الفصل لوثة أجنبية، زادت استشكال المتأثرين بها في حقيقة الدستور الإسلامي؛ ويُوضح ذلك الدكتور عبدالعزيز عزّت الخيّاط في قوله : "النظام السياسي للإسلام معروف للعلماء عل الرغم من أنهم لا يفصلون بين ما هو سياسة وما هو دين، فكل التنظيمات والتعاليم من الدين؛ لذلك نجد علماء العقيدة يتحدثون عن الحكم والخلافة والسياسة وعلاقة الحاكم والمحكوم كما يتحدثون عن الواجب في حق الله وعن صفاته وعن النبوة واليوم الآخر، كما نجد علماء الأصول والفقه يتناولون شؤون العبادات وأصول الأحكام، مثلما يتناولون موضوعات القضاء والشهادة والعقوبات والمعاملات والعلاقات الدولية وأبحاث الجهاد والسير وغيرها، وفي وضوح ودقّة لا تجدها في أبحاث المعاصرين من علماء السياسة والدستور ... ويقول الأستاذ محمود فياض : وهكذا يستطيع كل راغب في البحث التعرف إلى بحوث علماء المسلمين السياسية والدستورية في غير كبير عسر ولا مشقة، فسيجد آراء فقهاء الإسلام الدستورية واضحة جلية .

وقد فهم المسلمون منذ أول يوم قامت فيه دولتهم : أنَّ النظام السياسي جزء من أنظمة الإسلام ويشمل النظرية السياسية ونظام الحكم" .

ولا يخفى على مسلم يعرف معنى الإسلام ومراتبه التي تحكم العقيدة والشريعة -فضلا عن من له أدنى معرفة بحقيقة النظام السياسي الإسلامي- أنَّ النظام السياسي بنصوصه وفقهه الدستوري، جزء من النظام الإسلامي الشامل المتكامل؛ غير أنَّ الاستناد في بيان ذلك إلى المعايير الموضوعية في تمييز القواعد الدستورية عن غيرها، يجلي الجواب لمن لا يدرك هذه الحقيقة أو لديه غبش فيها؛ فمما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة، ولا يخالف فيه عالم من علماء الإسلام: أنَّ الإسلام عقيدة وشريعة، وأنَّ الإسلام دينٌ مِنْهُ الدولةُ، التي غايتها: حفظ الدين وسياسة الدنيا به باتفاق علماء الإسلام المعتبرين عند أهل الإسلام على مرّ العصور؛ لذلك اتفق علماء الإسلام على أنَّ حقيقة النظام السياسي الإسلامي تكمن في تحقيق مقصديه الرئيسين : حفظ الدين، وسياسة الدنيا به .

وكل انحراف في فهم هذا النظام، هو انحراف عن فهم حقيقة الإسلام، ومن ثمّ فهو انحراف عن فهم حقيقة النظام السياسي في الإسلام المتفق عليها بين علماء الإسلام .

ومستند أهل الإسلام في ذلك جملة النصوص الدستورية في القرآن والسنة، التي تتظافر على تأكيد هذه الحقيقة .
---
مما ينبغي إضافته إلى مقدمة الجواب السابقة: أنَّمن حقائق الشريعة الإسلامية شمولها لكل مجالات الحياة، ومن حقائق السياسة الشرعية أنَّ نصوصها الثابتة تجمع بين السياسي والتشريعي والقانوني بالمفهوم المعاصر؛ وليست مقتصرة على السياسي أو (النظام السياسي) بالمفهوم المعاصر؛ وهذا الدمج الشرعي، له فلسفته التشريعية؛ فهو متفرع عن مبدأ أعلى، هو: سيادة الشريعة . وهو مفهوم أوسع من سيادة القانون، التي وُجد الدستور لتقريرها والتزامها .

والآن ندخل في جواب تفصيلي على السؤال السابق : هل للدولة الإسلامية دستور بالمعنى القانوني المعاصر؟ وذلك حسب ما يسمح به هذا النوع من المقالات؛ فأقول :

بتطبيق المعيار الموضوعي للدساتير والقواعد الدستورية المعاصرة، على النصوص الشرعية(القرآن الكريم و السنة النبوية)؛ فإنَّنا نجد فيها نصوصاً دستورية جليّة، تقرّر مبادئ وقواعد دستورية، ونصوصاً أخرى تقرّر تفاصيل تتعلق بهذه المبادئ والقواعد، وتفاصيل أكثر تفريعا تقرّر مسائل تشريعية لا يمكن لبشر أن يُعدّل فيها فضلا عن أن يبدّل، وهذه الأخيرة وإن لم تكن مصنفة في المسائل الدستورية من حيث الموضوع، إلا أنَّها داخلة في المنصوص الشرعي المستقرّ، الذي هو أصحّ وثيقة وأصدق قيلا، مما يجعلها داخلة في الدستور الإسلامي الشامل قطعا؛ وهذا ما قرّره عدد من العلماء المعاصرين، وأفردوا فيه كتبا .

وكما نجد أنَّ جميع النصوص التشريعية في القرآن الكريم والسنة النبوية الثابتة، تقرّر أحكاماً ذات طابع دستوري من حيث وجوب التزامها من جميع سلطات الدولة الإسلامية، وإن تعلقت بمسائل لا تعد في موضوعها مسائل دستورية في الاصطلاح المعاصر لولا إدراجها في الوثائق والكتل الدستورية .

واندراج المسائل التي لا تعد في موضوعها مسائل دستورية، وتعدّ دستورية لتضمينها في النصوص الدستورية، له أمثلة كثيرة في عدد من الدساتير المعاصرة، وقد سبق الإشارة إلى ذلك؛ ومن أمثلة ذلك : منع الدستور الأمريكي في (التعديل الثامن عشر1919م : الفقرة الأولى) : انتاج أو بيع أو نقل المشروبات المسكرة، أو استيرادها إلى الولايات المتحدة وجميع الأراضي الخاضعة لسلطاتها، أو تصديرها منها، لاستخدامها في أغراض الشرب؛ ثم العدول عن ذلك بإلغائها في (التعديل الحادي والعشرون 1933م:الفقرة الأولى)، الذي يعني الإذن بذلك .

وإذا ما دخلنا في بيان موجز لجملة النصوص الدستورية ذات الموضوع الدستوري بالمفهوم المعاصر، فسنجد أمامنا جملة من النصوص الشرعية (نصوص القرآن والسنة)، في جميع الموضوعات الدستورية الرئيسة المعاصرة، ولعلي أكتفي بذكر تعداد سريع للنصوص الدستورية من في موضوعي السياسة والاقتصاد، فقد تكفلت بهما وبغيرهما من الموضوعات الدستورية : موسوعات إسلامية مهمّة، منها: (موسوعة أصول الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، للأستاذة خديجة النبراوي) تحت عنوان:"ملامح الدولة الإسلامية"، من الصفحة 737 إلى الصفحة 1575، وذلك في جزئين؛ فالجزء الأول: النظم السياسية (يقع في750)،وفيه أربعة أبواب: الباب الأول: نظام الحكم 739-875 (136صفحة)،والباب الثاني:مواصفات الحاكم و واجباته 877-1126 (249صفحة)،والباب الثالث: وظائف الحكومة1129-1324 (165صفحة)، والباب الرابع: قواعد السمع والطاعة 1333-1367 (34صفحة)، والباب الخامس: الرأي العام وظائفه وضوابطه 1370-1402 (32صفحة)، والباب السادس: السلطة القضائية 1405-1521 (116صفحة)،والباب السابع: الوحدة السياسية للأمة 1525-1575(50صفحة). والجزء الثاني في: النظم الاقتصادية (199صفحة) ،الباب الأول: مصادر ميزانية الدولة 1579- 1625 (46صفحة) ،والباب الثاني: ضوابط حول التعامل بالمال 1629-1702 (73صفحة) ،والباب الثالث: ضوابط النشاط الاقتصادي 1705-1785(80صفحة) .

ونموذج لغة الأرقام هذه يثبت دون شكٍ أنَّ للدولة الإسلامية دستوراً شاملا، مما جعل بعض أساتذة العلوم السياسية من غير الشرعيين يصرح بأن الدولة الإسلامية أول دولة قانونية توفر فيها الدستور وطبِّق .

وقد قال أستاذ أساتذتنا الدكتور ثروت بدوي – وهو أحد كبار أساتذة القانون الدستوري ممن ليسوا محسوبين على تيار إسلامي ما- : " أوَّل دولة قانونية –في الأرض- يخضع فيها الحاكم للقانون ويمارس سلطاته وفقا لقواعد عليا تقيده ولا يستطيع الخروج عليها، فقد كان الخليفة مقيداً بأحكام القرآن والسنة، واختصاصاته محدودة بما للأفراد من حقوق وحريات نصّ عليها الإسلام، ونظّمها وقرّر الضمانات التي تكفل حمايتها ضد اعتداء الحكّام والمحكومين على السواء؛ فالإسلام قد عرف فكرة الحقوق الفردية المقدسة التي تكون حواجز منيعة أمام سلطات الحاكم عشرة قرون، قبل ظهور فلاسفة العقد الاجتماعي في القرن السادس عشر" .

وأمَّا الواقع العلمي النظري والتطبيقي الدستوري الإسلامي، أي فيما كتبه عدد من علماء الشريعة وأساتذة القانون والباحثين في الدستور الإسلامي، إضافة إلى مشاريع الدساتير الإسلامية، وما سُنَّ من التجارِب الدستورية الإسلامية التي أسهم فيها عدد من علماء الشريعة؛ فإنَّ فيه معالم مهمة، تؤكد مزيدا من حقائق الجواب، كما تتضمن أجوبة على عدد مما سبق من أسئلة ؛ وهذا ما يُستكمل في المقالات التالية إن شاء الله.----

وهنا ظهر رأيان رئيسان لهما تطبيقات في الواقع :

الرأي الأول : يرى أنَّ (الكتاب والسنة) هما دستور الدولة الإسلامية . لأنَّ نصوصهما أعلى النصوص واجبة التطبيق في الدولة الإسلامية؛ كما أنَّ الدساتير الوضعية أعلى النصوص والقواعد واجبة التطبيق في الدول العلمانية .

والرأي الثاني : يرى أنَّ (الكتاب والسنة) وإن كانا دستور الأمة بالمعنى العام والخاص، إلا أنَّ نصوصهما أعلى من مفهوم الدساتير البشرية القابلة للتعديل والتغيير . أي : أنَّ النصوص الشرعية (الكتاب والسنة) مع تقريرها للمبادئ والمسائل إلا أنَّها تبقى مندرجة فيما يعرف اليوم بالمبادئ فوق الدستورية أو النظام العام الذي يتضمن القواعد الجوهرية النظرية التي يُستمد منها الدستور التطبيقي، سواء منها ما كان حاكما للموضوعات الدستورية أو كان حاكما لبقية فروع القانون الإسلامي؛ وعليه فهي أعلى من النصوص الدستورية بالمفهوم المعاصر سواء منها ما يقرّر مبادئ أو مسائل تفصيلية دستورية أو غيرها.

ويتفق الرأيان على عدم التعارض بين دستورية الكتاب والسنة -بمعنى سيادتها وعلوها على كل قانون بشري التدوين، دستورا كان أو ما دون الدستور- وبين إمكانية صياغة دستور إسلامي يُستمد من نصوص الكتاب والسنة، وما تفرع عنها من قواعد الشريعة ومبادئها، بحيث يدوّن الدستور الإسلامي بقسميه الثابت والمتغير، مستمداً من نصوصها ومبادئها وقواعدها، وفق ما يتطلبه الزمان والمكان والحال من مسائل مندرجة في المتغير الشرعي الذي لا يخرج عن نصوص الشريعة وقواعدها .

ومن هنا يكاد ينحصر الخلاف في مسمى ما يستمد من الكتاب والسنة من قواعد دستورية تصدر في شكل وثائق دستورية : هل يسمى (دستورا) أو يسمى ( وثيقة دستورية تابعة للدستور)؟ فمن قال: (دستور الدولة الإسلامية : الكتاب والسنة) قال : ما يسنه البشر من قواعد دستورية ليس دستورا أصليا، وإنما هو وثائق دستورية تابعة للدستور، معللا بأن هذا له نظائره في النظرية الدستورية واقع الدستوري المعاصر . ومن قال: (الكتاب والسنة نصوص ومبادئ فوق الدستورية) قال : ما يسنه البشر من قواعد دستورية دستورٌ لا وثيقة دستورية . وعلى كل حالٍ فمآل كلا الرأيين يُعدَّ وفق نظرية الدستور داخل إطار ما يعرف بـ(الكتلة الدستورية) .

وهنا يرد أحد الأسئلة السابقة ، وهو : هل يصح وصف الكتاب والسنة بالدستور؟

فهناك من يقول : لا يصح وصف الكتاب والسنة بالدستور، لأنَّ نصوص الدساتير تخضع للتعديل بل والتغيير سواء منها ما يقرر مبادئ عامة أو مسائل تفصيلية؛ بخلاف المبادئ و المسائل الشرعية المقرّرة بالنصوص الشرعية، فهي لا تقبل التعديل فضلا عن التغيير، باتفاق علماء الإسلام .

وهناك من يقول : لا حرج في ذلك؛ لأنَّ المراد أنها أعلى النصوص واجبة التطبيق في الدولة الإسلامية، وليس المراد أنها تماثل الدساتير الوضعية من كل وجه .

وبالنظر في الواقع، نجد عددا من محققي علماء الشريعة يطلقون هذا الوصف على القرآن الكريم والسنة النبوية، ويصفونه بذلك في مؤلفاتهم ومقالاتهم وفتاويهم، فممن استعملوها في مؤلفاتهم : الشيخ محمد عزة دروزة رحمه الله، وذلك في كتابه : "الدستور القرآني والسنة النبوية في شؤون الحياة " بجزئيه ، وقد انطلق فيه من قول الله عز وجل :)إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم...( ، ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم : (تركت فيكم أمرين : كتاب الله وسنة نبيه ) .

منقول"
وتشير الوثيقة الدستورية عادة إلى أساسيات الكتلة الدستورية؛ فالوثيقة الدستورية تتضمن عادة مقدمة ومتنا، و"المتن يحمل أساساً أحكاماً تتعلق بالتنظيم التقني للسلطة، من هيكلة، وإجراءات، وتوزيع للاختصاص وترتيب للوظائف الخاصة بكل سلطة ومؤسسة . بينما موضوع المقدمة عبارة عن مبادئ تحكم الأمَّة، وعن ذكر للمرجعيات الثقافية والحضارية التي تُشكل أسس بناء الأمَّة"(في النظرية الدستورية،د.يوسف حاشي:323) وهي التي تبرز التباين بين هويات الأمم والشعوب .

وهنا تُطرح عند القانونيين الدستوريين مسألة القرآن الكريم كجزء من الكتلة الدستورية!! خاصة أن بعض الدساتير العربية تنصّ على أنَّ "الإسلام دين الدولة"، وأنَّ الشريعة مصدر من مصادر القانون، وذلك في ظل واقع دستوري أوجد تناقضاً خطيراً بين انتماء الأمَّة لهويتها، وإلزامها بهوية أمّة تناقضها في الهوية؛ ويعلق أ.د. يوسف حاشي على ذلك بقوله: "إشكالية خطرة، تتمثل في حالة الانفصام الذي يعيشه المجتمع العربي الإسلامي، إذ لا يمكن أن ينصّ الدستور على الدين كدين دولة أو (مصدر من مصادر القانون) ويكون في نفس الوقت خارج دائرة الكتلة الدستورية"، ويُضيف : "إن ميزان الشرعية مرّة أخرى يصاب بزلزلة في كيانه، ولعلها ظاهرة للعيان في كل يوم، وفي كلّ التأزمات...الذي يعيشها المجتمع العربي".

ويجلي جرثومة المشكلة في هيمنة الاختيار السياسي على المنطق القضائي، مؤكداً أنَّ " هذا وحده كفيل بأن يُحدث الانفصام في شخصية المجتمع العربي" ."



منقول:

مدخل مهم .. لفهم إشكال سيادة الأمة والشريعة



بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

من المداخل المهمة التي تكشف لك محل الخلل في سجال سيادة الأمة والشريعة، ومن خلالها تسقط كثير من الإشكالات والإيرادات، المدخل التالي:
يقول لك:
لا يوجد في النظم السياسية المعاصرة شيء اسمه إرادة مطلقة للأمة أو للأكثرية، كل النظم السياسية المعاصرة لديها قائمة طويلة من الحقوق والحريات والمفاهيم تقيد هذه الإرادة، إرادة الأكثرية ليست مطلقة، بل مقيدة بفلسفة ومنظومة حاكمة عليها، تجعل إرادتها مقيدة بما لا يخالف هذه المنظومة، فهذه المبادئ تشكل مبادئ فوق دستورية، لا يحق لأي دستور أن يتجاوزها.
فلا يمكن للأكثرية أن تصوت على حرمان الأقلية من أي حق من حقوقهم تحت أي مبرر، بل وثم تفصيلات دقيقة لا يمكن تجاوزها لأنها من الحقوق الطبيعية المستحقة للإنسان لا يمكن للأكثرية أن تتجاوزها.
أما الدين، فلأن هذه المنظومة تقوم على مرجعية لا تعتمد الدين، فليس من ضمن المنظومة الملزمة للأكثرية أحكاماً دينية، بل وهذه الأحكام مبعدة لأن من المنظومة الملزمة فصل الدين عن السياسة.

فهم هذا المدخل يضع يدك على محل الخلاف جيداً، وتعرف من أين جاء الخلل:
من يقول بسيادة الأمة ولو أقصت الشريعة، ويجعل الشريعة منوطة برأي الأمة، يجعل إرادة الأكثرية مقيدة بالحقوق حسب المنظومة الليبرالية، وأما أحكام الإسلام فلم يدخلها ضمن هذه الحقوق لأنه غير مدرج في المنظومة الليبرالية.
فلديه إشكال كبير مع فرض الإسلام، ويستغرب كيف تفرضه بدون إرادة؟
ومن الذي يفرضه؟
ولماذا تتعدى على حق الأمة؟
ولماذا تخالف العقد؟
وإذا خالف الناس هل تقاتلهم؟
الخ هذه الأسئلة.
جميل ..
جرب أن تقلب هذه الأسئلة على ما تؤمن (المنظومة المعاصرة) بضرورة إدراجه، فما كان جوابه عنه، فهو بالضبط نفس جواب المسلم عن الإلزام بالإسلام.
هل يمكن للأكثرية أن تطالب بحرمان الأقلية من بعض – لاحظ بعض- الحقوق اليسيرة للأقلية؟
هل يمكن للأكثرية أن تمنع الأقلية من التصويت؟
هل يمكن للأكثرية أن تضع حدوداً تضيق على حريات الناس؟
بالتأكيد: لا.
جميل.

هات ذات الأسئلة التي تواجه بها الشريعة هنا:
كيف تخالف إرادة الأمة؟
هل ستقاتلهم؟ هل ستشكل انقلاباً عسكرياً؟
كيف تخالف عقد الناس؟
من الذي سيفرض هذه القيود على الأمة؟
الخ.

هل عرفتم الآن محل الإشكال؟
محل الإشكال أن الحكم الإسلامي يراد تطبيقه في ظل منظومة فكرية مختلفة، فيخرج لك نموذج مشوهاً، لا هو الحكم الإسلامي، ولا هو الحكم الديمقراطي الليبرالي.
نعود للسؤال التي تكرر في الحلقة:

ماذا لو أن 90% اختار غير الإسلام؟
قبل الجواب على هذه السؤال، فهذا السؤال أصلاً مبني على أنك تريد تحكيم الإسلام بناءً على منظومة مختلفة.

كيف؟
لأنه حتى يأتي لك مثل هذه النسبة، لا بد أولاً أن تقرر أن من حق الناس أن يختاروا الشريعة أو يرفضوها، وهذه مخالفة قطعية للإسلام.
ثم تجعل من حق رافضي الشريعة أن يجتمعوا ويتحزبوا وتفتح لهم المنابر والإعلام حتى يؤثروا على الرأي العام ويوجهوا الناس نحو وجهتهم المعارضة للشريعة، وهذه مخالفة مركبة قطعية للإسلام.
ثم بعد هذا يجري التصويت، ويكون ملزماً، وتترك الشريعة وتكون المشروعية لغيرها.
وكل هذه مخالفات قطعية، صار فيها الإسلام محكوماً بمنظومة مختلفة، ومقيداً بفلسفة منافرة له تماماً.
فقبل الجواب على هذا السؤال، لا بد أن تفهم أن السؤال لم يطرح إلا في ظل نظام لا يؤمن بالإسلام ولا يطبقه.

لهذا، هات هذا السؤال في المبادئ التي لا يقبل التصويت عليها،
ماذا لو أن الأكثرية أرادت حرمان الأقلية من حقوقها؟
سيقول لك مباشرة: لا يحق لهم ذلك.
بل ولا يمكن أن يقع هذا أساساً، لأن النظام لا يعطي الأكثرية هذا الحق، ولا يمكن لهم أن يصوتوا، بل وثم إشكال كبير في مجرد الحديث عنه، فلن يكون له الحرية الكافية في أن ينشر مثل هذه الأفكار لأنها تضر المجتمعوتعرض المبادئ الدستورية للخطر.
فمحل الإشكال أننا نلتزم ونرضى بكافة القيود التي تضعها النظم المعاصرة – وهي مستمدة من ثقافة مختلفة- ولا نجد أي حرج في الالزام بها وعدم التصويت عليها وجعل العقد بديهي بها ولا يتصور بدونها، وأما أحكام الإسلام التي هي من صميم دينننا وثقافتنا وتاريخنا فلا بد له من تصويت وكلام كثير!
إذا فهمتَ هذا فلا تتعجب إذا علمتَ أن بعض من يجادل في لزوم الشريعة من دون اختيار وتصويت، هو نفسه يقرر أن قيادة المرأة للسيارة حق طبيعي لا يجوز التصويت عليه!
وآخر يقرر أن عمل المرأة في وظيفة مختلطة حق طبيعي يجب فرضه ولو خالف الأكثرية!

--انتهى النقل.