احترمت العرب وفي القلب منهم قريش في ضلالها بعض الحرمات، وأجلتها إجلالا… ولم يشفع هذا لها لكنه لعله كان رصيدا لاختيارها للبعثة، فهي تجل الرسالات والكتب، وليس لديها تقديس لفرد، حبرا كان أو راهبا أو شيخا زانيا، أو فرعونا متجبرا أو قيصرا وارثا أو كسرى قائدا..فالاستقلال الذهني معدن نفيس، يجعل صاحبه بعد الاتباع غير المقلد الأعمى ، بل صاحب قضية ، يطيع في المعروف فقط، ويطلب البينة، ويصر على الفهم والتدبر وإعمال الشورى ....فلم يدخل النفر النار لما أمرهم أميرهم… وهذا هو المطلوب لتحرير البشرية…
والشاهد الأول في احترام الحرمات وتبجيلها… لا نراه في الجاهلية الثانية التي تستجلب الخسف… وهي تنتهك كل قيمة…
قال الصحابي حين أوشكوا قتله:
فلست أبالي حين أقتل مسلماً... على أيّ جنبٍ كان في الله مصرعي….
ولست بمبدٍ للعدو تخشّعاً ولا جزِعاً ، إنّي إلى الله مَرجعي....
إلى آخر القصيدة العظيمة…..
وكانوا قد خرجوا به خارج حدود الحرم! لينفذوا فعلتهم الخسيسة ويقتلوه… خرجوا به إلى التنعيم…. انظر بقية الأصول والقيم التي يفتقدها قوم في آخر الزمان قد يخسف بهم ويصيرون قردة وخنازير…
"سُجن الصحابي الجليل انتظاراً لتنفيذ الجريمة البشعة فيه ، حيث خرجت به
قريش إلى التنعيم (خارج حدود الحرم) ، وصلّى ركعتين خفيفتين ، واجتمع الرجال
والنساء والأطفال يحضرون مصرع الصحابي الجليل وصلبه ، وعندما رفع إلى
خشبته وأوثقوه ، قال : اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك ، فبلغه الغداة ما يصنع بنا ،
ثم قال : اللهم أحصهم عدداً ، واقتلهم بدداً ، ولا تغادر منهم أحداً .
وفي هذا الموقف العصيب قال هذه القصيدة :
"… لقد جمّع الأحزاب حولي وألّبوا… قبائلهم واستجمعوا كل مَجمعِ… "
إلى آخر القصيدة العظيمة الخالدة.
الشاهد الثاني لما أقصده:
ورد في السنن عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ ، قَالَ : فَلَمَّا خَرَجُوا ، قَالَ : وَجَدَ عَلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ ، قَالَ : فَقَالَ لَهُمْ : أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي ؟ قَالَ : قَالُوا : بَلَى ، قَالَ : فَقَالَ : اجْمَعُوا حَطَبًا ، ثُمَّ دَعَا بِنَارٍ فَأَضْرَمَهَا فِيهِ ، ثُمَّ قَالَ : عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَتَدْخُلُنَّهَا ، قَالَ : فَهَمَّ الْقَوْمُ أَنْ يَدْخُلُوهَا ، قَالَ : فَقَالَ لَهُمْ شَابٌّ مِنْهُمْ : إِنَّمَا فَرَرْتُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّارِ ، فَلَا تَعْجَلُوا حَتَّى تَلْقَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوهَا فَادْخُلُوها ، قَالَ : فَرَجَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَخْبَرُوهُ ، فَقَالَ لَهُمْ : " لَوْ دَخَلْتُمُوهَا مَا خَرَجْتُمْ مِنْهَا أَبَدًا ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ " .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق