هذا بحث منقول لطلبة العلم حول موضوع النجاشي لأن الخوض كثر:
التحقيق في نسبة عدم الحكم بما أنزل الله تعالى للنجاشي:
ونحن هنا نود أن نشير إلى بعض الأمور المهمة التي تعين بفضل الله على تحقيق هذه المسألة:
1- أن النجاشي رحمه الله عبد صالح صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وشهد له بحسن الخاتمة واستغفر له، فلا ينبغي لأحد أن ينسب إليه شيئا يغض من منزلته بالظن والحدس، ليسوغ لنفسه موقفا قد اختاره في المسألة المعروضة .
2-أن الوارد إلينا من إيمان النجاشي رحمه الله والأحداث التي وقعت معه لايتجاوز هذا الذي نقلناه، ولا يخرج عن معناه، مما يجعل الجزم بشيء من هذه الأمور الخارجة عما تقدم، من غير دلالة واضحة تبرأ بها العهدة نوعا من التهور في الأحكام غير محمود
3- أن النجاشي رحمه الله تعالى قد اختُلف في زمن إسلامه فمن أهل العلم من يرى أن ذلك بعد البعثة وقبل الهجرة إلى المدينة، أي مع هجرة المسلمين إلى الحبشةفي حدود السنة الخامسة من البعثة، ومنهم من يرى أن إسلامه قد تأخر إلى قرابة العام السادس من بعد الهجرة النبوية إلى المدينة ، ولسنا الآن في مقام الانتصار لأحد الرأيين، لأن البحث لا يتوقف على ذلك، لكن الوارد في الروايات يدل على صلابة الرجل في دينه، وأنه جاهر بعقيدته ولم يرده عن ذلك مخالفة المخالفين له من أركان دولته، فصرح بما يراه حقا، ووفر ملاذا آمنا للصحابة المهاجرين، ولم يسمح لأحد بالنيل منهم أو إيذائهم، بل جعل غرامة على من يؤذيهم، وهذه المواقف الثابتة الجريئة من الرجل تقود الباحث إلى التريث وعدم التسرع في القول بأنه لم يحكم بشريعة الله.
4- من المعلوم أن الفترة المكية لم تنزل فيها حدود، بل لم تمنع فيها محرمات كثيرة، كأكل الربا، وشرب الخمر، وزواج المسلمة من الكافر، ونحو ذلك، وبعض العبادات لم تشرع إلا في المدينة كصيام رمضان، واستقبال البيت الحرام فيالصلاة، والقتال في سبيل الله، وبعضها تأخر جدا كحج البيت، وأن كثيرا من التشريعات لم تنزل إلا في المدينة وفي فترة متأخرة، ومعلوم أن النجاشي رحمه الله تعالى قد توفي قبل اكتمال الدين وتمامه على الصورة التي فارق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا، قال ابن حجر: "وإنما وقعت وفاته بعد الهجرة سنة تسع عند الأكثر، وقيل سنة ثمان قبل فتح مكة كما ذكره البيهقي في دلائل النبوة، وقد استشكل كونه لميترجم (أي البخاري صاحب الصحيح) بإسلامه وهذا موضعه وترجم بموته، وإنما مات بعد ذلك (أي بعد إسلامه) بزمن طويل، والجواب أنه لما لم يثبت عنده القصة الواردة في صفة إسلامه، وثبت عنده الحديث الدال على إسلامه وهو صريح في موته ترجم به ليستفاد من الصلاة عليه أنه كان قد اسلم"[15]،
وقد علق ابن حجر في موضع آخر على كلام البيهقي في سنة وفاه النجاشي فقال: "وفي الدلائل للبيهقي أنه مات قبل الفتح" فعلق على ذلك بقوله: "وهو أشبه"[16]، وقال ابن كثير: "والظاهر أن موت النجاشي كان قبل الفتح بكثير، فإن في صحيح مسلم أنه لما كتب إلى ملوك الآفاق كتب إلى النجاشي وليس هو بالمسلم"[17]، وهو ما يدل دلالة واضحة على موته رحمه الله قبل إكمال الدين، فإن قوله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"قد نزل قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بشهور قلائل قال ابن جرير: "وكان ذلك في يوم عرفة، عام حجَّ النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوَدَاع،..وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة"[18]،
وعلى ذلك نقول: من الذي يملك الجزم بالتشريعات والحدود التي نزلت في حياة النجاشي حتى يمكنه أن يقول: إنه قد منعه العجز عن تطبيقها؟، ومن الذي يستطيع أن يثبت أن هذه التشريعات-بفرض نزولها- قد بلغته؟ ، وقد دل الدليل الصحيح على أن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة كانت تمر عليهم مدة من الزمن قبل أن يبلغهم ما نزل من الدين، بل وربما لم يعلموا به إلا عند عودتهم من الهجرة، فعن عبد الله بن مسعود قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم إذا كنا بمكة قبل أن نأتي أرض الحبشة فلما قدمنا من أرض الحبشة أتيناه فسلمنا عليه فلم يرد فأخذني ما قرب وما بعد حتى قضوا الصلاة فسألته فقال إن الله عز وجل يحدث في أمره ما يشاء وإنه قد أحدث من أمره أنلا نتكلم في الصلاة[19].
فالقائل: إن النجاشي رحمه الله لم يحكم بشرع الله، يلزمه أن يبين ما التشريع الذي فُرض على المسلمين وبلغ النجاشي ولم يعمل به لسبب أو لآخر، ولا يجوز أن ننسب لمثله أنه لم يحكم بما وجب عليه من دين الله تعالى بدون خبر ولارواية، ولكن بمجرد الاستنباط العقلي.
5- أن الرسول صلى الله عليه وسلم في أول دعوته لم يكن يطلب من الناس أكثر من التوحيد وبعض مكارم الأخلاق، بل كان يأمر بعض من يأتي إليه في مكة مؤمنا أن يكتم إيمانه والرجوع إلى أهله، وأن يرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا رآه قد ظهر وغلب من خالفه، وحديث إسلام عمرو بن عبسة دال على ذلك ففيه أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم: "إني متبعك، قال: « إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس، ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني ». قال: فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي فجعلت أتخبر الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة،حتى قدم على نفر من أهل يثرب من أهل المدينة، فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعواذلك، فقدمت المدينة فدخلت عليه، فقلت: يا رسول الله أتعرفني قال: « نعم أنت الذى لقيتنى بمكة ».... الحديث[20]
وهذا أبو ذر رحمه الله تعالى لما دخل على رسول الله في مكة وأسلم قال: " فأسلمت مكاني، قال: فقال لي: «يا أبا ذر ، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل» قال: فقلت: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم... الحديث[21]فأما عمرو رضي الله تعالى عنه فقد قبل الرخصة وأسر إيمانه، وأما أبو ذر رضي الله تعالى عنه فأبى إلا الجهر بكلمة الحق وإن ناله ما ناله، وليس فيفعل واحد منهما تقصير، فما الذي يمنع أن يكون حكم النجاشي في ذلك كحكمهما؟
6- من المعروف أن جعفر لم يكن آتيا ليبلغ النجاشي رحمه الله الدعوة ويدعوه إلى الإسلام، وإنما كان مهاجرا بدينه هو ومن معه من أذى قريش، والنجاشي وإن كان سمع من جعفر رضي الله تعالى عنه وصدقه فيما قال في حق عيسى عليه السلام، فما سمعه إلا لشكاية رسل قريش المسلمين ومحاولة الوقيعة بين النجاشي وبينهم، لكنه رحمه الله تعالى لم تكن جاءته رسالة من الرسول تطلب منه الإيمان ومتابعة الرسول فيما جاء به من ربه.
و الرسول صلى الله عليه وسلم لم يراسل الملوك والرؤساء ويطلب منهم الإيمان إلا في النصف الثاني من الفترة المدنية، فمن أين يؤخذ أن النجاشي كان مكلفا بالحكم بالشريعة حتى يقال: إنه لم يحكم بها لعدم قدرته، وقد روت كتب السيرة الرسالة التي أرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم للنجاشي فعن محمد بن إسحاق قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وكتب معه كتابا: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشي الاصحم ملك الحبشة، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرةالطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخته كما خلق آدم بيده ونفخه، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني، فإني رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفر ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فأقرهم ودع التجبر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي، والسلام على مناتبع الهدى"[22].
فعلى هذا يكون النجاشي رحمه الله قد أسلم مع قدوم جعفر رضي الله عنه وحدوث المحاورة بينهما التي تقدم الحديث عنها ، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يرسل إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام إلا عندما خرج بالدعوة خارج الجزيرة العربية وبدأ يراسل الملوك ويدعوهم إلى الله، وكان ذلك مع عمرو بن أمية الضمري، وقد كان ذلك سنة سبع من الهجرة على المشهور من أقوال أهل العلم، قال الصفدي: " أرسل عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي واسمه اصحمه ومعناه عطية، فأخذ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه على عينيه ونزل عن سريره وجلس على الأرض، وأسلم وحسن إسلامه، إلا أن إسلامه كان عند حضور جعفر ابن أبي طالب وأصحابه"[23]وقال ابن سعد: " فلما كان شهر ربيع الأول سنة سبع من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلمإلى المدينة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعث به مع عمرو بن أميةالضمري، فلما قرئ عليه الكتاب أسلم، وقال لو قدرت أن آتيه لأتيته"[24]،وقال النووي:"أرسل صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمرى إلى النجاشى، فأخذ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه على عينيه، ونزل عن سريره، فجلس على الأرض، ثم أسلم حين حضره جعفر بن أبى طالب وحسن إسلامه"[25]،
ثم إن النجاشي رحمه الله أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم . سلام عليك يا نبي الله ورحمته وبركاته الذي لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام، أما بعد فقد أتاني كتابك فيما ذكرت من أمر عيسى فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما قلت ثفروقا[26]وإنه كما قلت، ولقد عرفنا ما بعثت به إلينا ولقد قربنا ابن عمك وأصحابه،وأشهد أنك رسول الله صادقا مصدوقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وبعثت إليه بابني أرمى بن الأصحم، فإني لا أملك إلانفسي وإن شئت أن آتيك يا رسول الله فعلت، فإني أشهد أن ما تقوله حق والسلام عليك يا رسول الله "[27]
7- من المعلوم أيضا أنه ليس في فعل أحد دون الرسول صلى الله عليه وسلم حجة، والحجة إنما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس في فعل النجاشي رحمه الله تعالى أو قوله حجة إلا أن يثبت أن النجاشي لم يحكم بالشريعة، وأن ذلك قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقره ولم يعترض عليه.
8- العبد لا يكون مكلفا إلا ببلوغ العلم له أو إمكانية بلوغ العلم، أما إذا لم يبلغه أو لم يكن ممكنا بلوغ العلم له، فإنه لا يكون مكلفا بما لم يبلغه أو بما لا يمكن بلوغه، يقول ابن تيمية: "يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا، والحجة على عباده إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين، أو حصل العجز عن بعضه، كانذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله، كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه، كالمجنون مثلا، وهذه أوقات الفترات"[28]،
والقول: إن النجاشي رحمه الله تعالى كان مكلفا بالحكم بالشريعة لكنه لم يحكم بها لعجزه عن ذلك، فرع عن إثبات بلوغ العلم للنجاشي بتلك الأحكام، أوإمكانية بلوغها له، فليبين لنا أصحاب هذه الدعوى ما الأحكام التي تنزلت في تلك الأزمنة، وأنها بلغت النجاشي أو أمكن بلوغها له، ثم لم يحكم بها.
9- أن كثيرا من الأحكام التي نزلت في المدينة كانت مقررة عند أهل الكتاب، فيما أنزل الله في كتبه السابقة، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "كثير من شرائع الكتابين يوافق شريعة القرآن"[29]،وأهل الكتاب مأمورون في الحكم بينهم بما أنزل الله في كتبه لهم، والحكم فيهم بذلك لا يمثل لهم خروجا عن الدين، فحكم النجاشي رحمه الله تعالى بينهم بشريعة القرآن التي توافق ما في كتابهم لا يكون مستغربا منه، قال الله تعالى: "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهوكفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"، فكل هذه الحدود موجودة في التوراة، وهم مأمورون بالحكم بها، ثم قال الله تعالى: "وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"،وقد ثبت في الحديث المخرج في الصحيحين أن حد الرجم للزاني والزانية موجود في التوراة، فعنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ–صلى الله عليه وسلم - بيهودي ويهودية قد أحدثا جميعا فقال لهم: «ماتجدون فى كتابكم»، قالوا: إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبية، قال عبد الله بن سلام: ادعهم يا رسول الله بالتوراة، فأُتِيَ بها فوضع أحدهم يده على آية الرجم، وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له ابن سلام: ارفع يدك، فإذا آية الرجم تحت يده، فأَمر بهما رسول الله–صلى الله عليه وسلم - فرجما، قال ابن عمر: فرجما عند البلاط، فرأيت اليهودي أجنأ عليها"[30]زاد مسلم في صحيحه" اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه "[31]،فأهل الكتاب اليهود والنصارى مأمورون في الحكم فيما بينهم بما أنزل الله على رسله في التوراة والإنجيل، والنجاشي رحمه الله تعالى قبل أن يسلم كان نصرانيا متبعا للإنجيل، فليس غريبا أن يحكم النجاشي بعد إسلامه بين قومه بحكم القرآن فيما لم يظهر مخالفته لحكم التوراة والإنجيل، فيكون هو حاكما بما أنزل الله ولا يتفطن النصارى لذلك، لموافقته لما عندهم ، وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن النجاشي كان حاكما عادلا، فقال لأصحابه حاثا لهم: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه"[32]، ولا يكون بهذه المثابة وهو يحكم بغير ما يجد في كتاب الله التوراة والإنجيل المأمور باتباعه.
وأما ما خالفت فيه التوراة والإنجيل حكم القرآن فهذا نعرض له في الفقرة التالية.
10- سورة المائدة من السور المدنية، وقد تأخر نزولها جدا حتى كانت من أواخر ما نزل، فعن جبير بن نفير قال: "حججت فدخلت على عائشة, فقالت لي: يا جبير, تقرأ المائدة ؟ فقلت: نعم، فقالت: "أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه،وما وجدتم فيها من حرام فحرموه"[33]،وقال القرطبي: "وهي مدنية بإجماع، وروي أنها نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلممن الحديبية... ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع، ومنها ما أنزل عام الفتح"[34]، والمقصود بيان تأخر نزول السورة التي اشتملت على ذكر أحكام كثير من الحدود
ومما جاء في هذه السورة قوله تعالى: "فإن جاءوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، والآية فيها تخيير للرسول صلى الله عليه وسلمفي الحكم بين أهل الكتاب أو في الإعراض عنهم وترك الحكم بينهم لعلمائهم ورؤسائهم، فحتى هذا الوقت من الزمن وهو بعد زمن موت النجاشي رحمه الله قطعا كان للرسول صلى الله عليه وسلم أن يترك الحكم بين أهل الكتاب الذين هم في دولته لعلماء أهل الكتاب ورؤسائهم، ما يبين أنه لم يكن صلى الله عليه وسلم ملزما بالحكم بينهم بما نزل عليه من الأحكام الشرعية التي تخالف ما عندهم، بل كان مخيرا-إذا أتوه ليحكم بينهم-في أن يحكم بينهم بما أنزل الله إليه أو يعرض عنهم.
فمادام الأمر كذلك، فلماذا لا يقال: إن النجاشي رحمه الله كان يُعرض عن النصارى الذين هم أهل دولته، و يترك الحكم بينهم في المسائل التي يختلف حكمها عندهم عما بلغه من الشريعة، إلى قادتهم وعلمائهم ليحكموا فيها بشريعتهم؟، لا شك إن هذا القول أولى وأسلم من الزعم أنه لم يكن يحكم بالشريعة، لاسيما أن القول بالإعراض عنهم هو ما دلت عليه الآية، وهو في الوقت نفسه قابل للتطبيق من دون أية مشاكل أو عوائق، ثم ما دام أن الإعراض عن الحكم بينهم حكم شرعي، فإنه في تفويضه لهم ذلك يكون حاكما بالشريعة، ولا شك أن هذا هو الأليق بعبد زكاه الرسول ومدحه وصلى عليه واستغفر له بعد موته.
وهذاالتخيير الوارد في الآية قال به جماعة المفسرين، وليس من خلاف بينهم إلا في ديمومة ذلك الحكم، هل نسخ أم لا زال باقيا؟، وهاهي بعض أقوال هؤلاء العلماء:
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "فاحكم بينهم إن شئت بالحقِّ الذي جعله الله حُكمًا له ... أو أعرض عنهم فدع الحكم بينهم إن شئت، والخيار إليك في ذلك"[35]ثم قال: " ثم اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية، هل هو ثابت اليوم؟ وهل للحكام من الخيار في الحكم والنظر بين أهل الذمّة والعهد إذا احتكموا إليهم، مثلُ الذي جعَل لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية، أم ذلك منسوخ؟
فقال بعضهم: ذلك ثابتٌ اليوم، لم ينسخه شيء، وللحكام من الخيار في كلّ دهر بهذه الآية، مثلُ ما جعَله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم" ثم شرع ينقل أقوال أصحاب هذا الرأي فعن إبراهيم والشعبي: إنْ رفع إليك أحد من المشركين في قَضَاءٍ، فإن شئت فاحكم بينهم بما أنزل الله، وإن شئت أعرضت عنهم، وعن الشعبي وإبراهيم قالا: إذا أتاك المشركون فحكَّموك، فاحكم بينهم أو أعرضعنهم. وإن حكمت فاحكم بحكم المسلمين، ولا تعدُهُ إلى غيره، وعن عطاء قال: إن شاء حكم، وإن شاء لم يحكم، وعن الشعبي قال: إذا أتاك أهل الكتاب بينهم أمر، فاحكم بينهم بحكم المسلمين، أو خَلِّ عنهم وأهلَ دينهم يحكمون فيهم، إلا في سرقة أو قتل، وعن ابن جريج قال: قال لي عطاء: نحن مخيَّرون، إن شئنا حكمنا بين أهل الكتاب، وإن شئنا أعرضنا فلم نحكم بينهم. وإن حكمنا بينهم حكمنا بحكمنا بيننا، أو نتركهم وحكمهم بينهم،قال ابن جريج: وقال مثل ذلك عمرو بن شعيب. وذلك قوله:" فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، وعن إبراهيم والشعبي في قوله:" فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، قالا: إذا جاءوا إلى حاكم المسلمين، فإن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم. وإن حكم بينهم، حكم بينهم بما في كتاب الله، وعن قتادة قوله: "فإن جاءوك فاحكم بينهم"، يقول: إن جاءوك فاحكم بينهم بما أنزل الله، أو أعرض عنهم. فجعل الله له في ذلك رُخْصة، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم.
ثمقال: وقال آخرون: بل التخيير منسوخٌ، وعلى الحاكم إذا احتكم إليه أهل الذمة أن يحكُم بينهم بالحق، وليس له ترك النظر بينهم، وشرع يذكر من قال بذلك فعن عكرمة والحسن البصري" فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، نسخت بقوله:( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ ، و عن مجاهد: لم ينسخ من"المائدة" إلا هاتان الآيتان:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، نسختها:( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلاتَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) [سورة المائدة: 49]،وقوله:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ ) [سورة المائدة: 2]، نسختها:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) [سورة التوبة: 5]. وعن قتادة قوله:"فان جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، يعني اليهود، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم، ورخَّص له أن يُعْرض عنهم إن شاء، ثم أنزل الله تعالى ذكره الآية التي بعدها:( وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ) إلى قوله:( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) [سورة المائدة: 48]. فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلمأن يحكم بينهم بما أنزل الله بعد ما رخَّص له، إن شاء، أن يُعْرض عنهم، أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عديّ بن عديّ:"إذا جاءك أهل الكتاب فاحكم بينهم"، وعن عكرمة قال: نسخت بقوله:( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ ) [سورة المائدة: 48]. عن الزهري قوله:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، قال: مضت السنة أن يُرَدُّوا في حقوقهم ومواريثهم إلى أهلِ دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حدٍّ، يحكم بينهم فيه بكتاب الله، عن السدي قال: لما نزلت:"فاحكم بينهم أوأعرض عنهم"، كان النبي صلى الله عليه وسلم : إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، ثم نسخها فقال:( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ )، وكان مجبورًا على أن يحكم بينهم.
قال ابن جرير: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: إن حكم هذه الآية ثابتٌ لم ينسخ، وأن للحكَّام من الخِيار في الحكم بين أهل العهد إذا ارتفعوا إليهم فاحتكموا، وتركِ الحكم بينهم والنظر، مثلُ الذي جعله الله لرسوله من ذلك في هذه الآية صلى الله عليه وسلم"[36].
أقول: وبغض النظر عن تبيان الصواب من القولين في ذلك، فإن بحثنا ليس بحاجة للفصل فيه، ويكفينا أن نعلم أن هذا التخيير كان سائدا في حياة النجاشي رحمه الله تعالى، ما يبين أنه لا ينبغي لأحد أن يزعم أن النجاشي رحمه الله تعالى: كان لا يحكم بالشريعة.
ويمكننا أن نقول باختصار: إن النجاشي رحمه الله تعالى أظهر الإسلام والموافقة على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما قاله الصحابة في حضرته، ولم يبال بمخالفة حاشيته، ولم يكن ينقاد لأحد منهم ، وكان يعمل بما بلغه من أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما ما لم يبلغه فهو معذور فيه، ولم تكن شرائع الدين قد اكتملت، وهو قد مات رحمه الله تعالى قبل أن تكتمل، فقد أدى ما وجب عليه من العمل بما بلغه من الشرع حتى لقي ربه، وما خالف ذلك من الأقوال فلا دليل عليه.
توجيه كلام ابن تيمية في قصة النجاشي رحمه الله تعالى:
لكن قد يشكل على ذلك الكلام مع وضوحه واستقامته، كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في قصة النجاشي حيث يقول: "وكذلك الكفار من بلغه دعوة النبي في دار الكفر وعلم أنه رسول الله، فآمن به وآمنب ما أنزل عليه واتقى الله ما استطاع كما فعل النجاشي وغيره، ولم تمكنه الهجرة إلى دار الإسلام ولا التزام جميع شرائع الإسلام، لكونه ممنوعا من الهجرة وممنوعا من إظهار دينه، وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام، فهذا مؤمن من أهل الجنة، كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون، وكما كانت امرأة فرعون، بل وكما كان يوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر، فإنهم كانوا كفارا ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام، فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه، قال تعالى عن مؤمن آل فرعون: "ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا".
وكذلك النجاشي هو وإن كان ملك النصارى فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام، بل إنما دخل معه نفر منهم، ولهذا لما مات لم يكن هناك أحد يصلى عليه، فصلى عليه النبي بالمدينة، خرج بالمسلمين إلى المصلى فصفهم صفوفا وصلى عليه، وأخبرهم بموته يوم مات، وقال: إن أخا لكم صالحا من أهل الحبشة مات، وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر ولم يجاهد ولا حج البيت، بل قد روى أنه لم يصل الصلوات الخمس ولا يصوم شهر رمضان ولا يؤدى الزكاة الشرعية، لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه، وهو لا يمكنه مخالفتهم، ونحن نعلم قطعا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن، والله قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل الله إليه، وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه، وهذا مثل الحكم في الزنا للمحصن بحد الرجم، وفى الديات بالعدل، والتسوية في الدماء بين الشريف والوضيع النفس بالنفس والعين بالعين وغير ذلك، والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فان قومه لايقرونه على ذلك، وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا بل وإماما وفى نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفسا ألا وسعها، وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل إنه سم على ذلك، فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وان كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها"[37] .
وهذا النقل المطول عن ابن تيمية يظهر منه عدة أمور:
1- فمن ذلك أن ما قاله ابن تيمية هو من باب الرأي والاستنتاج وليس من باب النقل والخبر، وإلا فالمنقول كما تقدم لا يظهر منه ضعف النجاشي وعجزه، بل المنقول يُظهر عكس ذلك، على ما تقدم تقريره وبيانه.
2- ومن ذلك أن النجاشي بلغته الدعوة وهو في دار الكفر على هذه الحالة من الملك، فآمن وصدق، ولم يكن هو الذي بحث عن الملك بعد إسلامه.
3- ومن ذلك أن كلام ابن تيمية يدور على عجز النجاشي وعدم قدرته، فقدكان-كما يرى-عاجزا عن إظهار الدين وعن الحكم بالشريعة، ومظاهر عجزه فيأمور ثلاثة:
الأول: فقد كان ممنوعا من الهجرة،
والثاني: فقد كان ممنوعا من إظهار دينه،
والثالث: ليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام، والعاجز عجزا حقيقيا معذور لا يلام على ترك ما عجز عنه، لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها.
4- ومنذلك أن كلام ابن تيمية لا يفهم منه أن النجاشي كان يحكم بغير ما أنزل الله، بل أقصى ما قرره من ذلك هو أنه لم يلتزم من شرائع الإسلام ما لا يقدر على التزامه، وعندما تكلم تحديدا عن الأحكام قال: بل كان يحكم بالأحكام التي يمكنه الحكم بها.
لكن قول ابن تيمية: إن النجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، هو معارض بأن الأحكام التي مثل بها هي مما تقررت في التوراة، كرجم الزاني المحصن والتسوية في الدماء ونحو ذلك، فالحكم بها كما هو حكم بالقرآن هو حكم بالتوراة، وحينئذ فالنجاشي رحمه الله تعالى يمكنه الحكم بذلك من غير اعتراض من قومه، لأنه لم يحكم-عندهم-إلا بالتوراة التي يؤمنون بها، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما أقام حد الرجم على الزانيين اليهوديين: اللهم إني أول من أحيا أمرك بعد إذ أماتوه.
وما ذكره رحمه الله بقوله: "وكثيرمن شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر ولمي جاهد ولا حج البيت، بل قد روى أنه لم يصل الصلوات الخمس ولا يصوم شهر رمضان ولا يؤدى الزكاة الشرعية لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه، وهو لا يمكنه مخالفتهم"،فهذه تحتاج إلى مراجعة وتدقيق، فقوله: قد روي ..ألخ، كلام ذكره الشيخ بصيغة التضعيف ولم يجزم به، ولم ينقله عن أحد ممن سبقه من أهل العلم ، وهوفي الوقت نفسه معارض بكلام لشيخ الإسلام نفسه ينقل فيه عمن سبقه من أن النجاشي كان يصلي، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد ذكر عن عطاء و قتادة أن النجاشي كان يصلي إلى بيت المقدس، إلى أن مات وقد مات بعد نسخ القبلة بسنين متعددة، فلما صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقي في أنفس الناس لأنه كان يصلي إلى غير الكعبة، حتى أنزل الله هذه الآية، و هذا و الله أعلم بأنه قد كان بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلمي صلي إلى بيت المقدس فصلى إليه، ولهذا لم يصل إلى المشرق الذي هو قبلة النصارى، ثم لم يبلغه خبر النسخ لبعد البلاد، فعذر بها كما عذر أهل قباء وغيرهم، فإن القبلة لما حولت لم يبلغ الخبر إلى من بمكة من المسلمين، و من كان بأرض الحبشة من المهاجرين مثل جعفر و أصحابه، و من كان قد أسلم ممن هو بعيد عن المدينة إلى مدة طويلة أو قصيرة"[38]ثم إن هذه العبادات المذكورة من الممكن الإسرار بأدائها إذا أراد المرء أن يؤديها من غير اطلاع أحد على ذلك، وأما كونه لم يحج فإن أهل العلم اختلفوا في زمن فرض الحج، فمنهم من يراه فرض سنة خمس أو ست ومنهم من يراه فرض سنة ثمان أو تسع، وهل هو واجب على الفور أم على التراخي، و الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحج في الإسلام إلا حجة الوداع في السنة العاشرة، وأما الهجرة والجهاد فتحتاج إلى إثبات وجوب ذلك عليه رحمه الله، فإذا كان المسلمون قد هاجرواإليه فرارا بدينهم ومكثوا عنده إلى زمان فتح خيبر، فكيف يؤمر هو بالهجرة،وأما الجهاد فهو فرض كفاية.
ومع كل ما تقدم فإن هناك من أهل العلم من ينقل عن حال النجاشي مع قومه ما يخالف استنباط ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقد ذكر ابن سيد الناس في حكاية قيام عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه بتبليغ رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جيفر وعبد ابني الجلندى الأزديين ملكي عمان، قال عمرو: "فسألني (عبد بن الجلندى): أين كان إسلامي؟ فقلت: عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم، قال: فكيف صنع قومه بملكه؟ قلت: أقروه واتبعوه، قال: والأساقفة والرهبان اتبعوه؟ قلت: نعم، قال: انظر يا عمرو ما تقول إنه ليس من خصلة فيرجل أفضح له من كذب، قلت: ما كذبت وما نستحله في ديننا.
ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي، قلت: بلى، قال: بأي شيء علمت ذلك؟ قلت: كان النجاشي يخرج له خرجا، فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم قال: لا والله ولو سألني درهما واحدا ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله، فقال لهيناق أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خرجا ويدين دينا محدثا؟ قال هرقل: رجل رغب في دين واختاره لنفسه، ما أصنع به؟ والله لو لا الضن بملكي لصنعت كما صنع"[39]، فهو يبين إقرار قومه له واتباعهم إياه وهو يعارض مقولة العجز عن تحكيم الشريعة.
و
الشق الثاني: مناقشة الاحتجاج بقصة النجاشي وبيان المآخذ على هذه الاستدلالات:
وهذا الاستدلال يمكن مناقشته بالتالي:
ليس في فعل النجاشي رحمه الله تعالى دليل للمجيزين:
ماتقدم من حجج الذين يرون أن النجاشي رحمه الله لم يحكم بشرع الله، ليس فيها في الحقيقة أي دليل على هذه الدعوى العريضة، فلم ينقل منهم أحد شيء محدديبين ذلك أو يدل عليه، كل ما ذكروه في الموضوع هو تصور عدم إمكانية ذلكبناء على بعض المقتطفات المبتورة من سيرته، فأحد الباحثين يقول: "أما كونه لم يحكم بشريعة الله فإنه ظاهر من الحال التي كانت سائدة في دياره، ومن العقبات التي تعترض طريق"[7]وليس هذا دليلا، بل هو مجرد تصور شخصي لا يرقي لمكانة الدليل، ولعلنا بعدأن نسرد بعض الوقائع المفصلة التي تبين لنا ظاهر الحال التي كانت سائدة فيبلاد النجاشي ينقلب الاستدلال.
ومما ذكره مستدلا به على العقبات التي تعترض طريق النجاشي رحمه الله تعالى،قوله في رسالته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "فإني لا أملك إلا نفسي"، فإن المستدل لو أورد الكلام كاملا لظهر منه عكس ما يريد إيصاله للقارئ، فقد كتب النجاشي رحمه الله تعالى رسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابا لرسالته التي أرسلها إليه يدعوه فيها إلى الإسلام، فقال: "بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله من النجاشي الاصحم بن أبجر سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته، لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام، فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فوربالسماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا،وقرينا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقا ومصدقا، وقد بايعتكوبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك يا نبي الله باريحا بن الاصحم بن أبجر، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق"[8]،فهذه الرسالة فيها الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما نزل عليه من ربه، وبالإيمان بما نزل في حق عيسى عليه السلام، وأنه اهتدى إلى الإسلام، وبايع على ذلك، وهو يعلن استعداده للهجرة وترك الملك الذي هو فيه إن شاء ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم،وقد يستفاد منها أنه لم يطاوعه على الإسلام أحد، لكن ليس فيها أنه لم يحكم بشريعة الله، وبين الأمرين فرق، والقول إنه لم يحكم بشريعة الله يلزم منه أنه حكم بغيرها، لأنه ملك والملك من شأنه أن يحكم، فإما أن يحكم بشريعة الله وإما أن يحكم بغيرها.
على أن هناك بعض الروايات التي تبين أنه أرسل للرسول صلى الله عليه وسلم ستين رجلا مع ابنه"[9]مما يدل على أن هناك من طاوعه على الإسلام، وقد جاء في مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة أن النجاشي كتب رسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها: "وها أنا أرسلت إليك ابني أريحا في ستين رجلا من أهل الحبشة وإن شئت أن آتيكبنفسي فعلت يا رسول الله فإني أشهد أن ما تقوله حق والسلام عليك يا رسولالله ورحمة الله وبركاته"[10]، وأيا ما كان الأمر فليس يظهر من قوله: "فإني لا أملك إلا نفسي أنه لم يحكم بشريعة الله، ومن قبله قال موسى عليه السلام: "رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين"فهل في هذا ما يدل على أن موسى لم يكن يحكم في اليهود بشرع الله تعالى؟
.
ومما أورده المحتج في بيان العقبات التي كانت تعترض النجاشي وتحول بينه وبين الحكم بالشريعة قوله: "وعندما اعترف بصدق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلمبعدالمحاورة التي جرت بينه وبين جعفر بن أبي طالب...قال الخلص من أصحابه: والله لئن سمعت الحبشة لتخلعنا، وعندما اعترف بأن ما جاء به حق وقال: ماعدا عيسى بن مريم مما قلت-والخطاب لجعفر-هذا العويد فتناخرت بطارقته"وهذا القدر يبين وجود معارضين لإيمان النجاشي، لكن هل ردته معارضتهم هذهعن إعلان التمسك بالحق؟ لو أورد المحتج الرواية كاملة بدلا من هذه المقتطفات لتبين ثبات النجاشي وعدم تضعضعه أمام هؤلاء المعارضين، مما يبينأن معارضتهم له لم تكن لتحول بينه وبين العمل بما علمه من الحق وأُمر به،ففي الرواية المذكورة لما قال لجعفر: "ماتقولون في عيسى بن مريم ؟ فقال له جعفر: نقول هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فدَلَّى النجاشي يده إلى الأرضفأخذ عودا بين أصبعيه فقال: ما عدا عيسى بن مريم مما قلتَ هذا العُويد،فتناخرت بطارقته فقال: وإن تناخرتم والله ! اذهبوا فأنتم شيوم في الأرض - الشيوم الآمنون- ومن سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ثلاثا ما أحب أنلي دبرا وإني آذيت رجلا منكم - والدبر بلسانهم الذهب-فوالله ما أخذ اللهمني الرشوة حين رد عليَّ ملكي، ولا أطاع الناس فيَّ فأطيع الناس فيه"[11]
فالنجاشي رحمه الله لم يهتز أمام تناخرهم، بل تحداهم بقوله: وإن تناخرتم والله، ثمأمَّن الصحابة ووضع على من سبهم عقوبة وهي الغرامة، وبين أنه لا يخافالناس ولا يطيعهم في الله تعالى، أفمن كان هذا حاله يجوز أن ينسب إليه–بغير بينه-أنه ترك بعض ما أمر به طاعة للناس أو خوفا من نقمتهم، وفي الرواية الأخرى في هذه القصة: "(لما قال جعفر رضي الله تعالى عنه) وأما عيسى بن مريم فعبد الله ورسوله وكلمتهألقاها إلى مريم وروح منه، وابن العذراء البتول، فأخذ (أي النجاشي رحمهالله) عودا وقال: والله ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود، فقالعظماء الحبشة: والله لئن سمعت الحبشة لتخلعنك، فقال: والله لا أقول فيعيسى غير هذا أبدا، وما أطاع الله الناس فيَّ حين رد علي ملكي، فأطع الناسفي دين الله، معاذ الله من ذلك"[12]،فلم يأبه بما قاله له عظماء الحبشة من خلع الحبشة له، وما رده ذلك عنالتمسك بالحق وإعلانه، بل أقسم بالله أنه لا يقول في عيسى غير مقالته الأولى أبدا.
ومما جرى مجرى الروايات المتقدمة ما ورد في محاولة رسل قريش (عمرو بن العاص ومن معه) أن يوقعوا بين النجاشي وبين المسلمين فقال عمرو: "فإنهم يخالفونك في عيسى بن مريم، قال: فما تقولون في عيسى بن مريم وأمه ؟ قال (جعفر) نقول كما قال الله: هو كلمته وروحه ألقاها إلى العذراء البتول،التي لم يمسها بشر، ولم يفرضها ولد.
قال فرفع عودا من الأرض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله مايزيدون على الذي نقول فيه ما سوى هذا، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلموأنهالذي نجد في الإنجيل، وأنه الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم، أنزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه وأوضِّئُه"[13]،ففي هذه الرواية يواجه النجاشي الحبشة والقسيسين والرهبان ويجهر بالاعتقاد الصحيح في عيسى، ويشهد أن محمدا رسول الله وأنه الذي يجد في الإنجيل، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم.
وقد حمى النجاشي المسلمين ودافع عنهم فجعل من ملكه ملاذا وحماية لهم، فمنع من أذيتهم وجعل عقوبة على من فعل ذلك، فقال لهم بعدما سمع قولهم في عيسى بن مريم عليه السلام: "أيؤذيكم أحد؟ قالوا: نعم ! فنادى مناد: من آذى أحدا منهم فاغرموه أربعة دراهم، ثم قال: أيكفيكم ؟ قلنا: لا، فأضعفها"[14].
ومما أورده المحتج مستدلا على العقبات التي تعترض النجاشي ما ذكر ه من أن الحبشة لما علمت بإسلامه خرجوا عليه، وأنه احتال عليهم ليسكنهم، ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله عبده ورسوله ويشهد أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن.... ثم قال لهم: فما بكم؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد الله ورسوله، قال: فما تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول: هو ابن الله، فقال النجاشي ووضع يده على صدره وقبائه: وهو يشهد أن عيسى لم يزد على هذا، وإنما يعني على ما كتب "فإن ظاهر هذا يتعارض مع ما تقدم ذكره من الروايات التي تبين تصريحه بإيمانه أمام القسيسين والرهبان والجهر بعقيدته في عيسى عليه السلام، وعدم اعتداده بمن يعارضه في ذلك، والقصة مع ذلك ليس فيها أنه تكلم بالباطل، غاية ما فيها أنه احتال في كلمة الحق بحيث لا يتغلبون عليه، وهذا من المعاريض، ومثل هذا مما يجوز في شرعنا
[1]الإصابة في معرفة الصحابة
[2]أخرجه البخاري كتاب الجنائز رقم 1245
[3]أخرجه البخاري كتاب المناقب رقم 3877
[4]حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية د/عمر الأشقرص73-76، وانظر أيضا مشاركة الحركة الإسلاميةالمعاصرة في الحكم للشيخ فيصل مولوي
[5]المشاركة في الحياة السياسية د/مشير المصري ص256
[6]انظرمشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية وقبول الولايات العامة في ظلالأنظمة المعاصرة، للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وقد ذكر الشيخ ذلك الكلامتحت عنوان: حكم قبول الولايات العامة في ظل الدول الكافرة
[7]حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية د/ عمر بن سليمان الأشقر ص73
[8]دلائل النبوة للبيهقي 2/309-310، السيرة النبوية لابن كثير 2/43، البداية والنهاية 3/105
[9]تاريخ الطبري 2/132، تاريخ ابن خلدون 2/37، وكذلك أسد الغابة
[10]مجموعة الوثائق السياسية د/ محمد حميد الله الحيدر آبادي ص34
[11]السيرة النبوية لابن كثير 2/22، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد(2/27): " رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير(ابن) إسحق وقد صرح بالسماع"وصحيح السيرة للألباني ص 176، والشيوم قد وردت في بعض المصادر السيوموالكلمة ليست عربية، فالله أعلم أي ذلك هو الصواب، العويد: تصغير عود،والنخير صوت الأنف، نخر الإنسان والحمار والفرس بأنفه ينخِر وينخُر نخيرامد الصوت والنفس في خياشيمه
[12]دلائل النبوة 1/104 قال البيهقي: "وقوله: لتخلعنك أي لتعزلنك عن الملك"البداية والنهاية 3/73، الخصائص الكبرى للسيوطي ص245، السيرة النبوية لابن كثير 2/19، صحيح السيرة للألباني ص 173
[13]أخرجه أحمد في المسند رقم4168،عيون الأثر 1/150، البداية والنهاية لابن كثير3 /88 وقال: وهذا إسناد جيد قوي وسياق حسن،وأخرجهالبيهقي في دلائل النبوة نحوه وقال هذا إسناد صحيح، وساقه الألباني فيصحيح السيرة ص164-166 وقال: وهذا إسناد جيد قوي وسياق حسن
[14]البداية والنهاية3/91 أوردها ابن كثير نقلا عن تاريخ الحافظ ابن عساكر، وقال الحافظ ابن عساكر: حسن غريب
[15]فتح الباري
[16]فتح الباري
[17]البداية والنهاية 4/316
[18]تفسير ابن جرير9/815 طبع مؤسسة الرسالة
[19]أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم واللفظ لأحمد
[20]أخرجه مسلم وغيره
[21]أخرجه البخاري
[22]تاريخ ابن جرير الطبري 2/294 والسيرة النبوية لابن كثير2/42
[23]الوافي بالوفيات
[24]الطبقات الكبرى لابن سعد 1/208
[25]تهذيب الأسماء واللغات
[26]الثفروق: قال ابن القيم: وَالثّفْرُوقُ عِلَاقَةٌ مَا بَيْنَ النّوَاةِ وَالْقِشْرِ
[27]تاريخ ابن جرير الطبري2/294 وأسد الغابةفيترجمة أرمي ابن أصحمة، والسيرة النبوية لابن كثير2/42
[28]مجموع الفتاوى 20/48-61
[29]مجموع فتاوى ابن تيمية 16/44
[30]أخرجه البخاري كتاب الحدود رقم 6320
[31]أخرجه مسلم كتاب الحدود رقم3212
[32]سيرة ابن هشام 1/321، السيرة النبوية لابن كثير 2/4
[33]أخرجهعبد الرزاق في المصنف 7/ 172، وأخرجه أحمد رقم وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح، والحاكم في المستدرك تفسير سورةالمائدة 2/340 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقهالذهبي
[34]تفسير القرطبي 6/31
[35]مجمع البيان في تأويل القرآن تفسير ابن جرير الطبري3/326
[36]تفسير ابن جرير 10/325-333
[37]مجموع الفتاوى 19/217-219
[38]شرح العمدة لابن تيمية 4/548
[39]عيون الأثر 2/335 ،الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء لأبي الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي 2/317، وزاد المعاد 3/605
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق