الربيع.. والتحليل
العلمي للتاريخ "1"..
كنا نتحدث عن
التحليل العلمي للتاريخ، وعن قراءة النصوص في سياقها..
وهو أمر وسط بين
تقديس التاريخ وتقديس اجتهادات أعلامه، وبين تلمس السواد للتشويه والانتقاد..
والأمر يؤثر على
رؤية المسلم للمستقبل وللممكن والواجب..
الأمم تسقط تدريجيا
بانهيار أسسها الداخلية المعنوية ثم المادية,
وتضعف حين تفقد
ذاتها الأولى,
وليس معنى قوة منهج
ما بحيث أن جزءا منه يكفل جوانب عظمة لقرون، أن هذا كاف للاستمرار،
وأنه لا يلزم الأخذ
به كاملا، أو أن ذلك سيضمن عدم التدهور لاحقا..
ودور القادة كان
ولا زال هو رعاية البذرة، وحفظ الأمانة عمليا، وصيانتها وتنميتها,
ومن ثم يتحسن الحال
من جيل لآخر، وهي صاعدة,
ومن ثم يرتفع الوضع
في كل اتجاه, وليس في اتجاه الفتوحات
والتقنيات فقط مثلا, بل يرتفع تربويا وإيمانيا، على مستوى الفرد وتعاملات الجماعة،
وثقافتها وأدبياتها، وإعلامها وتعليمها وهويتها الجمعية، وشخصيتها العامة
الحضارية..
حسبما يظهر من
ظواهر ومعالم تدل على إيمان حقيقي داخلي- توسما وظنا بشريا والله حسيب الأفراد
والشعوب-.. تصرفات تنبئ عن عقيدة متغلغلة ويقين وعدل ورحمة، وعن رباط وثيق وفهم
عميق...،
ويعطي نضجا سياسيا،
يمنح مناعة ضد التقلبات في الأنظمة والدويلات والدول بين الأسر والعصبيات،
والخلافات، والتشققات,
المدارس التجديدية
والظواهر الفذة الفردية العلمية وحركات الإصلاح
لم تكن هي السواد الأعظم من جسم الأمة, بل كانت
نقاط الضوء والحجة التي لم تمنع المنحنى التاريخي والديني...,
وتقصير رعاة الأمة في مسؤولياتهم عن رعيتهم
دينيا وتنمويا، وحرمانهم إياها من حقوقها الشرعية الفطرية وتعاملهم معهم كقطيع
يورث, وكما قال الصحابي قيصيرية وكسروية كلما مات كسرى ورثه كسرى... ولا رأي للناس
ولا شأن بالمسألة ولا يسمح لهم أصلا....
فتوريثهم من يعجز ويقصر ويخون, مع ترك الأكفأ
والأصلح والأحق,
فضلا عن اغتصاب واحتلال المقام ذاته ، وعن منع
الناس من حقهم في تنصيب أجدر وأولى من يرون , وفي الرقابة عليه , كله خيانة وهدم
للدين بمفهومه الشامل..
وعزلة حاكمها في
مبنى شاهق يسمى القصر, وتلقيبه رغم ذاك بالخليفة، أيا كان حاله وعمله وفعله،
وتحصينه بحق السنة الشريفة, دون استحضار الأصل في عزله لولا المفاسد التي طرأت
وتكررت أول الأمر, مما دعا الجيل الأول للقول بما هو استثناء، ثم تلاه عدم السعي
للأصل وللتغيير أصلا، بل للترميم..
ومراعاة مصالح كالحشمة وإبهار الآخر لم يعتبرها
النبي صلى الله عليه وسلم, ولم يكن ما حدث عبر قرون مجرد خطأ نقفز فوقه, ونلوكه
كسلبية, قبل أن نقف عنده ونعالجه ونعالج سببه, ولا يصح أن ننظر لاعتبارات التعامل معه بصمت منعا لمفاسد
ثبتت ضآلتها فيما بعد, مقارنة بتقويض بنيان الأمة كلها, والقضاء على التيار النفسي
والفكري النقي فيها , على الكرامة والحرية والإباء والاعتداد بالنفس
والخروج من عبادة
العباد-بمعنى منحهم الطاعة أو الشعائر أو النصرة العمياء المقدسة أو المرجعية -
والخروج عن الروح
العلمية والعملية والتركيبة الإنسانية حاملة القضية، وصاحبة الرسالة المميزة للجيل
الأول, وعن نمط الشخصيات العابدة العاملة الربانية الحرة، والتي كانت لديها قوة
الإنكار واستعصاء على التغيير للأسوأ، ومعرفة لحقها وواجبها, وما جرى هو السكوت
على انهيار بطيء تدريجي ....
هو تحللها وتفلتها
وتبريدها, وعزل وإقصاء علمائها وتحييدهم وتقليص دورهم ومجالهم,
ولم يكن التدهور
الخلقي والقيمي والتدهور في معايير الكرامة والحق والعدل والحرية والشورى
والشراكة, وشخصية الفرد ودوره, ودور المجتمع من حالة الصحابة كمقياس ومرجع لما
تحتها ,
ورعاية ذلك التدني
والتنظير له بنصوص تعارضها غيرها, وتعارضها أصول مستقرة مستقرأة وباعتبارات عابرة
..لم يكن كل هذا سوى قتلا لروح الأمة وتغييرا لها وتذويبا , وفصلا لمكوناتها
السياسية عن الدينية والتنموية والتربوية , ولو تبين هؤلاء السابقون عظم الفساد
الذي حدث لما قالوا ما قالوه ساعتها عن المصلحة , ورؤية التغيير , وما يلزمنا هو
رؤية حالنا نحن غير المسبوق , والتعامل معه على ضوء كل ما فهمناه , والتجارب
السابقة, ولا ننشغل بمحاسبة السابقين ولا بتقديسهم, وهم بلا شك ليسوا بحاجة
لشهادتنا, وأفضل من أمثالنا, لكن هذا لا يشتمل عصمة لقولهم , فضلا عن أن ينزل على
واقعنا نحن..
عندما تصل فئام من
الناس تدعي الاقتفاء إلى الاستطراد في منطق المصلحة والسلامة، ليكون
عقيدة بذاته، وإلى
السكون لدرجة تشبثها به بعد زوال المبرر الوحيد
الذي كانت تدعي الحفاظ عليه - توهما- وهو التوحيد، ظنا منها أن التوحيد
تعليم نظري وحرية أقلية، دون صناعة مناخ للحياة به وصيانة جنابه والذود عنه،
وبعد أن زال من
كانت تدعو لهم على المنابر وتنافقهم وهم يهدمون كل شيء من الداخل،
ثم حل بها وكلاء
ويهود ونصارى وملاحدة وعبدة شيطان وبهائيين وزنادقة، ومحتلون أعاجم، وظلت تقول ما
تقول، فماذا تريد؟
هل تريدهم أن
يسجدوا جميعا للأوثان، لقد رأت بالفعل وأقرت بسجود فئام منهم للقبور والقصور،
وتغير مرجعيتهم ونمو طائفتهم ورعايتها الرسمية، مع تآكل منافسيهم برعاية رسمية
كذلك، فماذا بقي..
قال شكيب أرسلان:
" فلن يبقى
الشرقيون أبد الدهر مدنقة هينة عليهم نفوسهم
ولن يصبروا أكثر
مما صبروا على أن يلي أمورهم من ليس منهم،
ولا بدّ أن يأتي
الزمن الذي يصبح كلٌ فيه سيداً في دياره، مانعاً لذماره؛ مساوياً في الأرض لمن ظن
سلطانه سرمداً، ودوره مؤبداً، وعمل اليوم عمل من لا ينظر ما يكون غداً،
ولاسيما المسلم
الذي يقرأ كل يوم في قرآنه ما يجعله بكل جارحة من جوارحه رجلاً ولا يرضى له
بالاستقلال بدلاً، وينفخ فيه من روح الأنفة ما يصور الذل كفراً،
ويلقى في روعه من
حب العلم ما يصير الجهل وزراً،
ويحتم عليه من
الأخذ بالأسباب القوة ما يخيل الضعف شركاً،
كلا لن يلبث الشرق
لدى دول الاستعمار هو الشحمة الرُقّى، والأمم التي لا تملك لأنفسها حقاً، ولا تنفض
عن أعناقها رقاً،
ولا يمكن أن يظل
الأوروبي سيد الأرض غير مدافع، وصاحب الحكم غير مزاحم متسلطاً على ما في الدنيا من
الجهات النفسية، مستأثراً بما بين المشرق والمغرب من الجنبات الرئيسة، فلم يبرح
الدهر قلَّباً، والدوام محالاً، والتاريخ يركب الأمم طبقاً عن طبق، ويلحق من تأخر
بمن سبق، وما من بهشة، إلا وراءها جهشة، وقد كذب من طمع في صفو بلا كدر، وصعود بلا
حَذَر،
ومن أعظم الخطأ
الظن بأن الشرق لا يلمُّ على شعث، و إن آسيا وأفريقيا لن تنهضا من عثار وهما ثلثا
العالم، ولقد سار الشرق في مدة وجيزة عقَبَاتٍ جِياداً، واجتاز أزماتٍ شداداً، وهو
ماض في سيره إلى الأمام لا سبيل بعد اليوم إلى تعويقه، ولا حاجز يمكن أن يقف في
طريقه بدسائس تلقى، ومبالغ سريّة تنفَق، وأخلاق تُفسَد؛ وذمم تشرى وأشراك تبثّ،
وأسياف تُسلّ، ولا المحلقات في الجو تقدر على كم الأفواه، ولا الغازات السامة تقوى
على إطفاء نور الله، وما تزيد هذه الوسائل تلك الأمم المستضعفة إلا شوقاً إلى
الحرية، ونداء إلى الثارات وإصراراً على الضغائن، ومهما يكن من حيل العباد فللكون
سَنَن هو سائره ولله أمر هو بالغه."
د. إسلام المازني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق