"لذا شاء أمر اللّه أن تنصر العلا ** وأن يبتلي منّا الظلومُ بأظلمِ"
نبوية موسى
هناك سياق ومؤهلات للتعليم والمناظرة، بل وللنصيحة والدعوة حسب المقام والدار والغاية من الحوار …
لم يكن اختيار مبعوثي النبي صلى الله عليه وسلم للناس عشوائيا ولا مبنيا على الحب والثقة العامة فقط..
ولا ينقص من قيمتك أن تكون بحاجة لتخصص معين، أو أن يكون دورك مع غير هذا الجمع أنفع لاعتبارات لا تمس ذاتك
كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتقي ويختار من يرسلهم كمعاذ ومصعب رضي الله عنهما، وراجع مميزاتهما في كتب معرفة الصحابة،
أحيانا يكون الأمر بسيطا والمطلوب مثلا إقامة حجة أو بلاغا وفقط وأحيانا يكون المطلوب مناظرة وتعليما وبناء وتأسيسا في ظروف صعبة كما فعل الصحابة بالحبشة والمدينة وباليمن وغيرها كمن بعثوا للقبائل…
في بعض الحالات يلزم اختيار الرسول المبعوث ممن له صفات جبلية وخلقية ومجتمعية ومؤهلات معينة في الصحبة والتحصيل وسمعة معينة وتربية تعطيه زخما وحشمة وهيبة وألفة وحظا من فنون البيان ومن الأناة ..وليس مجرد صدق اللهجة والكم المعرفي فقط… أحيانا يلزم للأذان حسن الصوت ..
ومن ذلك الباب احتياجنا إلى التخصص والاحترافية، خاصة مع تعقد الواقع ومنازلاته،
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجاوب مع معطيات الواقع فيما لا حرمة فيه، وكان ينزل من يعتبرهم الآخرون - بمقاييسهم هم- أكفاءهم للصراع، ويستدعي الشاعر والخطيب للسجال تلبية لعرف القوم ودراية بفنون التأثير وميادينه، والسيرة مدرسة…
مثلا
محاورة أهل الكتاب ومن في حكمهم، فالدعوة لأمثال هؤلاء الذين سيناظرونك بكم من الكتابات والمقولات وفنون رد الشبهات أمور تحتاج تخصصا ودراية وكفاءة للتصدر وسمتا وبيانا، فهي أمانة ومسؤولية وليست لكل أحد، وإلا تسببت في مزيد فتنة لهم،
فارق بين أن تحدث عاميا جاهلا جهلا بسيطا غير مركب، وليس مماريا، بل طالبا للحق متقبلا لنبذ التقليد الأعمى ..وبين أن تحدث متخصصا في الجدل ومعتادا على الجدل العقيم أو سفيها أو من هو عالم في قومه أو في مذهبه أو خريج مدرسة مجتمعية تحتاج علاجا علميا وعقليا ونفسيا، فليس القصد أن تفحمه وتنصرف، ولا الغرض هو مجرد كسب نقاش ومحاججة بالنقاط وتمضي،
ومثله حين تجادل من ينتمي لطائفة معينة أو ملة بغت بالتلبيس وخلط البراهين والخطب والتعمق في تفنيد قضيتك . . لتصل لدعوته، فعليك بتحصيل الواجب وأدوات المعرفة ورصيد أهل الذكر والخبرة، وبمعرفة مدى تناسبك مع هذه الوقفة ولغة القوم ومألوفاتهم، ليبقى أثر رسالتك تمثيلا مشرفا ولا تسيء للعناوين الجليلة...وهذا لا يقلل من ذاتك المصونة وقيمتك الجليلة ونيتك النبيلة...
"إذا نام غر في دجى الليل فاسهرِ**
وقم للمعالي والعوالي وشمرِ"
"وصف لي منزلا حُملوا إليه * وما لمحوا الطريق ولا المطيا
وكيف أتى الغنىّ له فقيرا * وكيف ثوى الفقير به غنيا"
"لَعَمْرُكَ، ما بالأرض ضيقٌ على امرئٍَ **سرَى راغباً أو راهباً، وهو يعقلُ!"
من قصيدة لامية العرب، للشنفرى
التربية المستمرة حقيقة، مثل التعليم المستمر في معايير الجودة، وتجاهلها لا يلغيها، بل يحدث فجوة بقدرها
والتربية ليست -عادة- فترة للقعود، ليؤجل السعي دونها، بل هي منه ومعه وفيه..
والسائر والسالك والفارس والراجل والمحصور وابن السبيل والكبير والصغير كلهم بحاجة للتعليم والتربية باستمرار، كحاجتهم للطعام والشراب، دون انقطاع للطعام والشراب بلا شك..
وهذه القصيدة نضع عيونا منها كلما تيسر، وهي التي نذكر الكرام دوما بأن أجدادهم العظماء والنبلاء والصالحين حثوا على تعليمها للصبيان، بعد تعليمهم أساسيات الكتاب والسنة، أي بالتوازي مع بقية التعلم، وكجزء منهجي ربما افتقدناه في الصغر...
ليس هذا فقط لأن هذه الملحمة أو هذه المعلقة غير المتوجة تفيد الناس في فهم كلمات الكتاب والسنة ومعرفة قدرهما، بصفتها قصيدة متينة ومدرسة لغوية، كلا... فهذا القدر من البيان تشترك فيه هذه القصيدة مع بقية نفائس ديوان العرب المهمل، والتي حث العلماء والحكماء على تعلمها فعلا، لفهم القرآن، كما ورد ذلك عن أكابر علماء الصحابة- رضوان الله عليهم- فمن دونهم من الأئمة...
بل لأن هذه التحفة الأدبية لها أهمية خاصة...
كل هذا نظرا لقيمتها المعنوية العالية، في مضمونها، وليس في شكلها وبلاغتها فقط ككثير من شعر ما قبل الإسلام، فسبب اهتمامهم بها هو توازي معانيها مع ما يراد تحقيقه في عالم النفس والكمال الإنساني، وهو أن يكون المعدن البشري نفيسا وخيرا وسامقا، ومن ثم يكون ذا صلابة وقيمة عالية حين يسبك في إطار أمته، وحين يوكل إليه شأن ما أو غرس فسيلة ما، كما كان الصحابة- رضوان الله عليهم - حين أخذوا من خير ما عرفوه ونبذوا القبائح...
فقد تعلمهم هذه المعاني كيف ينبغي أن يفكروا وأن يشعروا! وأن يصبروا...وألا يكونوا مدجنين ولا هباء منثورا....
وقد تهذب الاعتبارات والقدوة نفوسهم، وترتقي بهم عقلا بالاستقلالية الذهنية والشخصية، المفقودة في طاحون التقليد الأعمى والتقمص والهرولة ...، والتي لا تنفي الآداب والتؤدة والمروءة، كما هو واضح في طيات القصيدة، وبهذا وغيره تسمو بمكارم الأخلاق، التي أتت لتثبتها وتتمها رسالة الإسلام الخاتمة، ولتعيد تقريرها..
وهذه القيم هي التي ينبغي تكرارها بكل السبل والأساليب، للدراسة والترويح، وينبغي المداومة على الاستقاء منها ومن أمثالها، كما كان الحداة مع القوافل يفعلون، بدل الإسفاف والابتذال والخواء....
فالأخلاق بمفهومها الواسع إنما هي الأنوار التي لا تستقيم الخلائق على صبر طريق العقيدة أو حتى على فهمه أو مناقشته! دونها، ولا تقدر على فهم الواقع وإدراكه ومعايشته دونها..
فالعقل قد لا يدرك الأمور مستقلا عن الممارسة ولا مستقلا عن القوة النفسية ونوع الشخصية... وقد لا يفاضل العقل بين الخيارات منعزلا كذلك...
فالإنسان وحدة واحدة وليس أجزاء ولا مراحل نمطية..وقد فقدنا كثيرا في عملية المسخ الممنهجة والمستمرة...ولعل أي وسيط يبسط لمن تلاه، وهذه أموربسيطة الكلفة عظيمة الأثر، وتتوازى ولا تتقاطع مع أي مشاريع جليلة وآنية منعا للمزايدات..
"ولكنَّ نفْساً حُرَّةً لا تُقيمُ بي = على الذمِّ إلاَّ ريْثَمَا أتَحَوَّلُ"
#اللغة تربي
يولد المرء مسلما متوازنا على الفطرة، فيأتي أبواه ويسلمانه إلى القطاع الخاص أو الحكومة ببيئة تعليمية ثقافية إعلامية مخططة بحد السيف، أو يأتي له الشيوخ الضالون المضلون المجدبون أو أي كاتب مفكر متفلسف أو مزروع أو مستأجر… يأتي أحدهم أو كلهم.. فيمجسونه أو يمسخونه، ويجدعون عقله، ويشوهون قلبه ونفسه وأدواته للفهم… فيرى بأعصاب مبرمجة ومعلومات مبتسرة عن الدين والدنيا والتاريخ والقيم ومعلومات مشوهة عما يرى فضلاً عما لم يحضره أصلا ويقطع فيه كأهله أو كأنه من أعدائهم…
الوابل الصيب لابن القيم رحمه الله ج1/ص106
عن "لا حول ولا قوة الا بالله" :
و هذه الكلمة لها تأثير عجيب في معاناة الاشغال الصعبة وتحمل المشاق والدخول على الملوك ومن يخاف وركوب الاهوال، ولها ايضا تأثير في دفع الفقر ..
تفسير البغوي رحمه الله :
تفسير البغوي ج4/ص357
وأكثر المفسرين قالوا : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، أسر المشركون ابنا له يسمى مالكا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أسر العدو ابني، وشكا إليه أيضا الفاقة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اتق الله واصبر ، وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، ففعل الرجل ذلك فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب إبلا وجاء بها إلى أبيه وهي أربعة آلاف شاة فنزلت ))
الكنى والأسماء ج3/ص1189
فلما كرب محمد بن القاسم قال يا عمران بن النعمان وهو أمير أهل حمص ناد أمراء الأجناد يستنهضوا بما استطاعوا فلما أعيت عليه الأمور نادى لا حول ولا قوة إلا بالله مراراً فكف الله ملك الفيلة فنزعت إلى الماء وضجرت من الحر فما استطاع أصحابها حبسها وحملت الخيل عند ذلك والناس فكان الفتح بإذن الله ))
مجموع الفتاوى ج10/ص686
قال الشبلى بين يدى الجنيد لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال الجنيد قولك ذا ضيق صدر وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء فإن هذا من أحسن الكلام، وكان الجنيد رضى الله عنه سيد الطائفة ومن احسنهم تعليما وتأديبا وتقويما وذلك أن هذه الكلمة كلمة إستعانة لا كلمة إسترجاع وكثير من الناس يقولها عند المصائب بمنزلة الإسترجاع ويقولها جزعا لا صبرا فالجنيد
أنكر على الشبلى حاله في سبب قوله لها إذ كانت حالا ينافى الرضا ولو قالها على الوجه المشروع لم ينكر عليه ))
الفواكه الدواني ج1/ص297
وإذا استقبله مكروه يقول لا حول ولا قوة إلا بالله وإذا أصابته مصيبة قال إنا لله وإنا إليه راجعون ))
تاريخ الإسلام للإمام الذهبي ج18/ص111
وهو يحكي محنة وصبر الإمام أحمد بن حنبل :
(( فأخذه فلما ضرب سوطا قال بسم الله فلما ضرب الثاني قال لا حول ولا قوة إلا بالله ))