"{ لقد خلقنا الإنسان في كبد } . .
في مكابدة ومشقة ، وجهد وكد ، وكفاح وكدح . .
كما قال في السورة الأخرى : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } . .
والذي يلاحظ الوليد عندما يهم بالحبو وعندما يهم بالمشي يدرك كم يبذل
من الجهد العنيف للقيام بهذه الحركة الساذجة .
وعند بروز الأسنان كبد . وعند انتصاب القامة كبد . وعند الخطو الثابت كبد .
وعند التعلم كبد . وعند التفكر كبد .
وفي كل تجربة جديدة كبد كتجربة الحبو والمشي سواء!
ثم تفترق الطرق ، وتتنوع المشاق؛
هذا يكدح بعضلاته . وهذا يكدح بفكره . وهذا يكدح بروحه .
وهذا يكدح للقمة العيش وخرقة الكساء .
وهذا يكدح ليجعل الألف ألفين وعشرة آلاف . .
وهذا يكدح لملك أو جاه ، وهذا يكدح في سبيل الله .
وهذا يكدح لشهوة ونزوة . وهذا يكدح لعقيدة ودعوة .
وهذا يكدح إلى النار . وهذا يكدح إلى الجنة . .
والكل يحمل حمله ويصعد الطريق كادحاً إلى ربه فيلقاه!
وهناك يكون الكبد الأكبر للأشقياء . وتكون الراحة الكبرى للسعداء .
إنه الكبد طبيعة الحياة الدنيا .
تختلف أشكاله وأسبابه، ولكنه هو الكبد في النهاية .
فأخسر الخاسرين هو من يعاني كبد الحياة الدنيا لينتهي إلى الكبد الأشق الأمرّ في الأخرى .
وأفلح الفالحين من يكدح في الطريق إلى ربه ليلقاه بمؤهلات تنهي عنه كبد الحياة ،
وتنتهي به إلى الراحة الكبرى في ظلال الله .
على أن في الأرض ذاتها بعض الجزاء على ألوان الكدح والعناء .
إن الذي يكدح للأمر الجليل ليس كالذي يكدح للأمر الحقير .
ليس مثله طمأنينة بال وارتياحاً للبذل ، واسترواحاً بالتضحية ، فالذي يكدح
وهو طليق من أثقال الطين ، أو للانطلاق من هذه الأثقال ، ليس كالذي يكدح ليغوص في الوحل ويلصق بالأرض كالحشرات والديدان!
والذي يموت في سبيل دعوة ليس كالذي يموت في سبيل نزوة . .
ليس مثله في خاصة شعوره بالجهد والكبد الذي يلقاه .. "
انتهى النقل من تفسير الظلال.
وهو من روائع الجمع والتوفيق وإيجاد التناسب الدقيق بين الأقوال في التفاسير، وقد درست تفسير السورة في عدد كبير منها، ولمست هنا هذا الجمال في الربط بين الآثار واستنباط المعاني بسلاسة وشمولية استوعبت ما نقلت وفتح لها الفتاح العليم بما سطرت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق