الجمعة، 4 سبتمبر 2015
ءاية الكرسي بين التدبر والتفسير(1-8
د اسلام المازني
9/2/2012
الحمد لله رب العالمين..
اللهم صل على محمد وعلى ءال محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى ءال إبراهيم
سلامٌ على المعروف في الكتبِ نعته ** ولكن أهل الكفر أخفوه حُسدا
سلام على من قام بالوحي منذراً * وقام به جنح الدجى متهجّداً
سلامٌ على من كلّف العرب سورةً * تشابهه نظماً فكلٌ تبلدا
قال تعالى:
" الله لا إله إلا هو الحي القيوم......"
هذه أعظم ءاية، وهي من "من دستور المسلمين وديوانهم المرجعي"، وفيها موعظة للمتفقهين والمفتين، ولواضعي الدساتير والمستفتين، وللمعنيين من بني ءادم عليه السلام... من الليبراليين واليساريين والسائرين في كل مسالك الدنيا والدين..
دينٌ تُصانُ حقوقُ العالمين به ** ويستوي عنده الساداتُ والخدمُ
ضلّ الألى تركوا دُستورَهُ سفهاً ** فلا الدساتيرُ أغنتهم ولا النُّظمُ
ءاية فيها نصيحة علمية عملية إلى الكرام الناطقين بالفتيا، المتحدثين باسم الدين، وإلى كتبة الدساتير، والباحثين عن الحقيقة، والمتحدثين باسم الحرية والمدنية ..
آيةٌ للرّسول تبقَى وكم مِنْ ** ءايةٍ للرّسول ذاتِ اتّصال
لنا أرشيف عظيم، يتعامل مع الثوابت والمتغيرات بحكمة بالغة، فيضع
محكمات كريمة لما لا يتغير مثل عقيدة المرء ورؤيته وتصوره وفهمه للدين والإيمان ومعرفته بربه تعالى شأنه، وفي دواء رغباته وعيوبه البشرية الأزلية، الفردية والأممية، ويضع عموميات أخرى تفاصيلها متطورة متجددة، تحت قيم عامة، لما يستجد من حاجياته اليومية حسب الزمان والمكان، والظرف والحال الفردي والعام.. وضوابط ذلك والعجز والضرورة وما شابه معلومة، والمماحكات والحيل والتملص أمور معلومة! وإنكار البدهي معلوم!
هو الأَحد القَيوم من بعد خَلقه ** وما زال في ديمومة الخَلق أَولا...
وما خَلَق الإنسان إلّا لغاية** ولَم يترك الإنسان في الأَرض مهملا...
قال تعالى:
"ولكن الله يفعل ما يريد.."
تأمل جيدا فهذا تعليم وتذكير... تأمل في أحداث عمرك، وحال الكون
وتقلبه من حولك، واتل كلمات ربك:
" ولكن الله يفعل ما يريد"
ثم انظر إلى العظمة بعدها يا بني:
" الحي القيوم"
" لا تأخذه سنة ولا نوم"
" لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء" :
لا قدرة لكم ولا قوة، ولا تقومون حتى بأمر أنفسكم،
ولا عندكم حتى مجرد علم بما تواجهون، ولا دراية، ولا إحاطة إدراك بأي شيء لم يرد أن تعلموه ....
أحيانا تعلم وتعجز...فتقف أمام تلك القوة الهائلة، عارفا بقدر الفارق بينك وبينها..
لكنك هنا-أمام قدرة الله تعالى- لا تعلم إلا ما يشاء لك...فأنت هنا عبد مخلوق ضئيل، محدود المعرفة والقوة دوما.. والفارق أبعد من تصورك.. ولا مقارنة، فليست مواجهة دنيوية... فلمن تركع؟ لصخر أصم؟ أو لطاغية مغتر! لديه علم محدود، وقوة محددة، لكنه ظن أنه قادر عنتري حتى ضد الموت، وعلى الأرض المزينة إلى أبد وأمد غير ذي حد...
وكم رأيناهم يموتون ويمرضون ويصابون بالجنون، ويخسرون كل شيء!
وقد كانوا أخذوا بكل سبب للحماية والوقاية!
كم من ملكٍ أوفى عدداً ** فبنى ليقيم ولم يُقِمِ
العالم الحق يعلم كلما فهم شيئا جديدا أن العمق المعرفي أمامه بعيد، لا ينفذ أمام عينه، ولا يدرك أمده، وغير محدود قراره، هذا حول الكون وبنائه وقوانينه المتقنة المحكمة، التي بنيت بإعجاز وإبداع بل وبجمال أيضا، فكيف حول الخالق البارئ لكل هذا، المصور الحكيم المهيمن،
العالم الحق يعلم ويقر للعالم من حوله أنه لا ينتهي أمامه مدى للحقائق والنظريات، وأنه يزداد معرفة بأن هناك الكثير لم يعلمه بعد،
ولم يكتشفه ولم يفهمه على وجهه، وأنه ينقض أحيانا علم من سبقوه وأنه يرى الكثير من الدقة، ويزداد علما بجهله، وتواضعا
ويعرف قدره...
وأمت عبيدك يا مميت موحداً ** لأنال خير سعادة السعداء
يا حي يا قيوم أحيي مهجتي ** بتلاوة القرءان ذي الأنباء
وهو الحي سبحانه:
وَما الناسُ إِلّا مَيِّتٌ وَابنُ مَيِّتٍ ** تَأَجَّلَ حَيٌّ مِنهُمُ أَو تَعَجَّلا..
فَلا تَحسَبَنَّ اللَهَ يَخلُفُ وَعدَهُ ** بِما كانَ أَوصى المُرسَلينَ وَأَرسَلا..
هذا عن العلم، ولا تحيط بشيء من علمه تعالى، إلا بما شاء..
ثم: القدرة والطاقة وإمكان العمل، والقوة والبقاء والحياة والرزق والحفظ والرعاية، والعناية بالمجموع وبالفرد!
هو : "القيوم" وحده،
--
قال ابن القيم:
هَذَا وَمِن أوصَافِهِ القَيُّومُ وَال ** قَيُّومُ فِي أوصَافِهِ أمَرَانِ
إحدَاهُمَا القَيُّومُ قَامِ بِنَفسِهِ ** وَالكَونُ قَامَ بِهِ هُمَا الأمرَانِ
------
وكلنا عبيد القيوم، سبحانه! لا شك في ذلك، إلا لدى العميان..
وأنت لا تقدر على أي شيء بذاتك، بل أنت نفسك قائم بإرادته وقوته وحفظه، وتدبيره هو سبحانه القيوم، الذي به حياة وقيام واستمرار كل شيء، وهو لا يحول ولا يزول، وكلنا يرى أسبابه الدنيوية أحيانا تنفذ أمام المقادير، ويرى النتائج شاهدة في الواقع والتاريخ أنها ليست بيد فرد أو أمة، أو بسبب فاعل مطلق، بل بيد عليم خبير، وقدرته مطلقة تلغي السبب أحيانا، وتعمل في غيابه، أو تلغي أثره، أوتعمل بعكسه أحيانا فتكون العاقبة كما يريد الحق وكما في سننه الكونية التي لا تتبدل، أفتتخذه عدوا؟ أو تتخذ عدوه وليا!
"لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء...."...
أليست هذه خطيئة؟
أليست المسارعة إلى مغفرته أولى بي وبك:
وَلَم يَبغِ إِلّا أَن نَبوءَ بِفَضلِهِ ** عَلَينا وَإِلّا أَن نَتوبَ فَيَقبَلا!
"لا تأخذه سنة ولا نوم":
هل نسيت أنك ضعيف مهما ملكت، وأنك مجرد إنسان، وأنك تنام وتسقط وتغيب،
يا من يجيب دعا المضطرّ في الظلم ** يا كاشف الضرّ والبلوى مع السقم
قد نام وفدُك حول البيت وانتبهوا ** وأنتَ يا حيّ يا قيّومُ لم تنَمِ
وهو سبحانه لا ينام، بل يحفظك أنت في نومك! حتى يمتلئ كيسك
ويأتي أجلك، فتأخذ جزاءك..
فأين تذهب؟
"من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه"
لا صلة ولا زلفى، ولا واسطة تغني، إلا أن
يأذن هو سبحانه للشفعاء المرضيين فيشفعوا للموحدين المرضيين،
فهم محتاجون مثلك إليه.. وسبيله واحد لا صلة به وإليه إلا منه..
هو ولي المؤمنين، ومخرجهم من عتمة التيه إلى ضياء النور، والطغاة
يسحبون فريقهم إلى مرحلتين، إلى سواد الظلمات ثم منها إلى النار!
"الله لا إله إلا هو الحي القيوم"
"لا تأخذه سنة ولا نوم.."
" من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه"
"يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم..ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء"
ثم بعد تمام البيان
"{ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ،
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ }
فهل ترى الطغاة ينهون عن الصلاة فقط؟ وترى الشأن الذي خلقنا له هو الذكر والشعائر والمشاعر"الجليلة" فقط؟ أم ترانا معبدين بالطاعة، وتلمس مراد الله من كتابه، ومحبته ونصرته، وحمل رسالته، والتمسك بوحيه؟
أم نفرغه من مضمونه، ليبقى لهوانا ما يريد؟
فرغنا كل أمر من حقيقته لغاية ومقصد وعلة ومصلحة، ثم فرغت هذه المصطلحات من تعريفها القرءاني، ومن اعتبارات التصور للمؤمن الرباني، المؤمن الذي يعلم الكتاب ويدرسه، " ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وما كنتم تدرسون"
وصارت العلة عجيبة متلونة ملتوية، محدودة مبتسرة مختزلة مختلة، والمقاصد مختلفة حسب حكمة المغريات، كأنه لا محنة في الحياة ولا ثمن لكلمة الدين، و صارت الغايات شتى، ترضي الناس ليرضوا عن الدين!، والمصالح قصيرة عابرة، بل وغير معتبرة عند عرضها على ميراث أنبياء وعلماء شرفاء" ليسوا سواء"، بل هي مصالح قاصرة متصادمة شوهاء وأحيانا متفحشة...
ثم فرغنا كل وصف من مضمونه ومسماه، و من معناه ومدلوله!
وأعطينا لكل أمر صكا بالشرعية، ولكل سائر صكا بأنه من المستسلمين
لرب العالمين...
" لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا.."
"فاستمسك بالذي أوحي إليك"
"ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه
ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله.."
هل وضعنا العنوان أننا مرجعيتنا الكتاب ثم اختلفنا في الفهم؟
أستغفر الله..
إني أراكم على خطر عظيم، خطر أن تستمروا فيما تكتبون، كما تكتبونه...
وما أبرئ نفسي، ولو حتم على الناصح أن يسلم من العيب ما تكلم
أحد منذ خلق الله الخلق...
يا حيُّ يا قيُّومُ يا سبُّوحُ يا * قُدُّوسُ يَا من ما لَهُ من ثاني
اِرحَم ضَعِيفاً قَد أَتاكَ وَمَالهُ * شيءٌ منَ الحَسناتِ في المِيزانِ
قال الطبري البليغ العبقري رحمة الله عليه :
وأما تأويل قوله:"لا إله إلا هو"
فإن معناه: النهي عن أن يعبد شيء غير الله الحي القيوم.
وأما قوله:"الحي" فإنه يعني: الذي له الحياة الدائمة، والبقاء الذي لا أول له بحد، ولا آخر له بأمد ، إذ كان كل ما سواه فإنه وإن كان حيا
فلحياته أول محدود، وآخر ممدود، ينقطع بانقطاع أمدها، وينقضي بانقضاء غايتها.
عن الربيع قوله:"الحي" حي لا يموت.!"
قال أمية ابن أبي الصلت الثقفي:
لم تخلق السماء والنجوم...
والشمس معها قمر يعوم
قدره المهيمن القيوم...
والجسر والجنة والجحيم
إلا لأمر شأنه عظيم
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق